د. عطور الموسوي ||
رُوِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : " عَلَامَاتُ الْمُؤْمِنِ خَمْسٌ : صَلَاةُ إِحْدَى وَ خَمْسِينَ، وَ زِيَارَةُ الْأَرْبَعِينَ ، وَ التَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ، وَ تَعْفِيرُ الْجَبِينِ، وَ الْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "
رب سائل يتساءل لماذا أخذت هذه الزيارة مكانة في شخصية المؤمن وعلى لسان الامام المعصوم؟
قد لا نتمكن من الاجابة عن أمور غيبية، لكننا وجدنا لهذه الزيارة أثرا رئيسيا في تخليد القضية الحسينية وانتصار الحسينيين على كل طاغ أقدم على منعها وعلى مر أزمان الظلم الذي تعرض لها الشيعة، وكلما زادت مظاهر القمع لهم كلما زاد التمسك بها، ليس على غرار قاعدة أرنولد توينبي " التحدي والاستجابة" فحسب وانما وجد الموالون أنهم يتزودون منها وقودا في إحقاق الحق ولا يبالون بكل وسائل القمع والاقصاء التي اعتمدها الطغاة .
وعن العراق اتحدث، طيلة عقود البعث المظلمة حُظرت هذه الزيارة وبأساليب مختلفة لا تخرج عن اطار الاقصاء والقمع الفكري وتقييد حرية التعبير عن الرأي، وبرزت بوضوح في انتفاضة شهر صفر وما تعرض له الزائرين من استهداف مسيرتهم السلمية القادمة من محافظة النجف الى كربلاء عند منطقة خان النص وعروج عدد من الشهداء واعتقال ما تبقى منهم ليعدم شنقا عددا منهم ويسجن آخرون.
وتفنن الطاغية صدام بقمع هذه الزيارة وكلما زاد قمعه زاد إصرار الشيعة على الزيارة وكأنهم يستحضرون أيام المتوكل العباسي وجرائمه بحق الزوار آنذاك ويصرون على المضي والسير مشيا على الأقدام وإن كان الوصول الى كربلاء الحسين يتطلب أياما بسبب قطع الطرق المباشرة من قبل سلطة البعث وزرع سيطرات أمنية عليها، كانوا يسلكون طرق البساتين ويتجنبون السير نهارا وانما يسرون ليلا وفي كل الظروف المناخية، ويصلون ويجددون العهد عند سيد الشهداء ابا الاحرار ويستلهمون منه عزما للمضي قدما في مقارعة الطغاة، ولم يخشوا ما ينتظرهم من اعتقال وأحكام جائرة بين الاعدام والسجن المؤبد، هم رددوا :" يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما" فصاروا مؤمنين بما يقع عليهم سيكون في عين الله، ورجاؤهم بالله أن يجعلهم من أنصار الحسين عليه السلام وان مرت قرونا على يوم الطف.
وسقطت أصنامه وتنفس العراقيون صعداء التحرر من ربق الاستبداد لكنه كان ملوثا ببارود المحتل وقواته المنتشرة في ربوع وطننا وقد أصاب جنود الاحتلال حالة من ذهول كبير وهم يرون مدا بشريا واسعا يتدفق من كل قرية ومدينة ومسيرة سلمية شملت كل فئات المجتمع وحتى المعاقين، تسير بانسيابية عالية دون تدافع دون مشاكل وتجد كل الخدمات متوفرة لا تقتصر على الجهد الحكومي وانما يشارك الجميع بما متاح له، ومنذ ذلك اليوم صار العراقيون يتنظرون موسم الزيارة الاربعينية وكل عام يزداد هذا المد البشري المنجذب الى قبلة العاشقين بكل اخلاص وتفاني، وهذا ما لم يرق لاعداء الاسلام ومن يدعون انهم مسلمون من أذناب البعث وايتام الطاغية صدام فعمدوا على استهداف هذه الشعيرة المتوارثة منذ قرون والمؤودة من سلطة البعث القمعية، فشنوا حملة همجية من خطف وقتل وتفجير ظنا منهم ان يثنوا ملايين العاشقين، وكلما زادت ممارساتهم الارهابية أصر الزائرون على المضي بكل يقين مؤمنين بان من يموت شهيدا مع انصار الحسين ، هكذا ايقنوا وانتصروا بهذا اليقين وخاب اعداؤهم خيبة الدنيا والآخرة، يكفيهم خيبة وخسرانا أنهم سيلقون ربهم وأيديهم ملطخة بدماء الابرياء .
وعلى الرغم من كل ذلك صارت الزيارة الاربعينية كتكليف على كل عراقي حيث صار بعضهم يسأل بعض متى تذهب للزيارة ولا يستفسر عن ذهابه من عدمه ؟ وكل حسب مقدرته منهم من يزوره ماشيا من أبعد مدن الشمال والجنوب، ومنهم من يستعين بوسيلة نقل مع المشي، ففي هذه الزيارة لا يتردد الزائر من ان يستقل أي وسيلة وان كانت عربة خشبية لنقل الخضار، يشعر بأقل المواساة لركب بنات الرسالة القادم من بلاد الشام.
أما المواكب الحسينية فلا ترى مسافة في طريق كربلاء تخلو منها ويديرها شيبة وشبابا يبذلون أفضل ما عندهم لخدمة الزائرين على مدار الساعة، بكل ود وترحاب وتبادل الدعوات، فأي أجواء تلك التي يعيشها هؤلاء المتوجهون لسيد الأحرار، وأي كم بشري أجاب نداءه : "هل من ناصر ينصرني" ..
نعم سيدي ومولاي لبوا نداءك يا أبي الضيم وسيد الشهداء، لبوه وهم في عالم الذر وارتضعوا حبك من امهاتهم وتمسكوا بك مع آبائهم، سينجون بحبك من مكر الشيطان ويعبرون بر الامان .
وتبقى الزيارة الاربعينية معيارا لانتصار الدم على السيف ومصداقا لمقولة مولاتنا الحوراء : " فوالله لن تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا" فالسلام السلام عليها في ذلك اليوم وفي كل يوم وحتى قيام الساعة.
29 أيلول 2031
21 صفر 1443