د. حسين القاصد ||
لم تستثمر صفحات التواصل الاجتماعي _ لدى بعضهم _ للتواصل الأجتماعي، واذا كان الفيسبوك عالما افتراضيا في اغلب بلدان العالم، فهو في العراق عالم حقيقي، فيه متنزهات واسواق، ومكتبات، ومنصات للشعر، وشهادات تقديرية تحمل من الالقاب والصفات ما يحلم به اشهر المبدعين واكبرهم .
بعد انهيار النظام الساقط، الذي كان رأسه الطاغية المقبور يحلم بأن يصير اديبا، فأخذت الروايات تنزل ( لكاتبها ) واتذكر اني شاهدته في التلفزيون يلتقي ببعض الشعراء من بينهم ( رئيس المجمع العلمي الحالي)، ويقول لهم كان بامكاني ان اتعلم الوزن، لكني فضلت أن اترك الشعر لكم، واكتب الرواية !! ؛ تذكرت هذه الحادثة وانا بصدد الكتابة عن ظاهرة سرطانية اصابت جسد المشهد الأدبي في العراق، فاذا كان الطاغية المقبور يتحدث في زمن لم نعرف فيه الفيسبوك، فإن الشعر صار اليوم اسهل والشهرة اسهل ؛ اذ بامكان أي شخص الذهاب الى شارع المتنبي كل جمعة ويلتقط صورة مع تمثال ابي الطيب، ثم يعود متجها الى غايته، فاذا كان هو من رواد الدكاكين الثقافية سيجد نفسه في المركز الثقافي وتنتظره عيون الفضائيات التي يسعى مراسلوها لإنجاز استطلاعاتهم، ولأنه لم تعرفه الكاميرا من قبل تجده يقف خلف أقرب شخص لديه لقاء تلفزيوني، ثم يتقرب شيئا فشيئا، حتى تلتقي به هذه الفضائية او تلك، وتسأله عن علاقة الاختناق المروري بيوم الأحد على سبيل المثال!! ؛ فيبدأ النجم الصاعد بالتنظير والتحليل، ثم ما ان يفرغ من هذا حتى يجد نفسه في إحدى الغرف التي اطلق على بعضها منتديات، وهذه المنتديات العشوائية انجبت مثقفين هجناء ولغتهم ( عجمى) لكنهم سرعان ماتحولوا الى نجوم إبداعية كما يحلو لهم وأنصارهم ان يخطابوهم .
إن أخطر ما في هذه الدكاكين الثقافية أنها صنعت نفسها من أناس تبحث عن الشهرة الثقافية، وهؤلاء الناس بعد شهرتهم الفيسبوكية مُنحوا جانبا من الشرعية لهذه الدكاكين ؛ لذلك نجد صفحات التواصل الاجتماعي مليئة بالشهادات التقديرية التي يوقعها صاحب المنتدى بالقلم الأخضر !! وتقدم الى الاساذ/ة المبدع/ة الكبير/ة، وما إلى ذلك من الالقاب المجانية المخطوطة على ورق من الكارتون المقوّى، وهو الورق هو الذي خلط الاوراق على المراقب للمشهد الثقافي العراقي، حيث يتحول الحاصل على شهادة الورق الكارتوني المقوى، الى اسم كبير، وهو انتشار ليس إبداعيا لكنه هو الطاغي الآن على اغلب المؤتمرات والمهرجان الرسمية، حيث سرعان مايقوم رواد هذه الدكاكين بطباعة الدواوين والمجاميع القصصية، والكتب التي ليس فيها سوى كلام ركيك، تصحبه سيرة ذاتية بعدد مشاركاته في المهرجانات التي تقام داخل العراق او حتى خارجه حيث ظاهرة الدكاكين الثقافية تنتشر في كل بلدان العالم.
وبين ( دكان ) المنتدى الثقافي و ( دكان ) منظمة المجتمع المدني، نجد فعاليات سنوية لاختيار افضل شاعر وافضل قاص وافضل ناقد وافضل وزير !! وافضل صحيفة وافضل قناة فضائية !!، وبهذا يحقق صاحب الدكان الثقافي ربحا ماليا واعلاميا كبيرين، فأما المالي فيكمن باختيار المسؤول الذي قد تكون اثيرت عليه بعض القضايا، لذلك هو بحاجة لهذا التكريم فيغدق على القائمين على الدكان الثقافي ونشاطهم التكريمي هذا، وهو النشاط الذي لاتخلو قاعته من صوت المشجع الرياضي المعروف ( مهدي) ؛ اما الكسب الاعلامي _ وهذه الحالة شاهدتها مرارا وتكرارا _ فيكمن في الفخ الذي تستدرج اليه هذه القناة او تلك كي تحصل على شهادة من الورق الكارتوني المقوى، او درع زجاجي بأنها افضل قناة للعام الحالي، وتنشر وتبث الخبر من شاشتها، وبذلك يحقق صاحب الدكان كلا الربحين، ويحقق رواده الشهرة المجانية الخاوية .
لكن كيف لنا ان نقنع من طبع عشرات الكتب وملأ جدران بيته بعشرات الشهادات التقديرية بأنه طارئ على الوسط ومن سوّقه الى الوسط طارئ مثله، كيف سنقنعهم وهم صارت لهم علاقاتهم الاعلامية، وصاروا في المهرجانات الرسمية الكبيرة يلاحقون الكاميرا حتى تشيع نجوميتهم!!
وكيف نقنع تلك الفتاة الجميلة التي حظيت بعشرات المقالات النقدية التي كتبت في شعرها ( بكسر وفتح الشين ) ! بأن ماكتب حول ما تسميه منجزها، كتب لها لا لمنجزها ؛ لقد تفاقم الأمر وصار مزريا جدا وكأنه من الواجب على المرء ان يصبح شاعرا او قاصا او اديبا بصورة عامة .
واذا قُدر لك ان تخرج من المركز الثقافي، وتدخل الى القشلة، ستجد نفسك امام سوق ( هرج ) ابداعي مميز، لأن هناك رغبة ملحة في ارتقاء المنصة والقاء مناحات غرامية تحسب جزافا على الشعر الشعبي، وتتحقق هذه الرغبة عبر ( بسطيات وجنابر ) يطلق عليها أصحابها ما يحلو من الاسماء وتكون لها صفحات ممولة ؛ وبين الشعر الشعبي وبسطيات التنظير الخاوية، تضج القشلة التي قصمت ظهر شارع المتنبي بحفلات غناء وحلقات نقاشية حول أزمة الثقة في النفس وعلاقتها ب (الميتا قشلة) ليتبلور لديهم ان التعويض الكامل عما ينقصهم لايتم الا بعد تذوق ( دولمة) المتنبي !! والتقاط صورة معها ونشرها في التواصل الاجتماعي لكي تحصد على عدد كبير من التعليقات التي تعزز من اسم صاحب المحاضرة الاستاذ المبدع الكبير، الذي غالبا ما يكون كبيرا عمرا فقط لاغير، والغريب ان هذه ( الجنابر) و ( البسطيات ) القشلوية لايتجاوز عدد أعضائها عدد الاصابع لكنها لا تتحد فيما بينها، وتبقى موزعة في القشلة في أماكنها الثابتة وكامراتها ومدراء صفحاتها الممولة !! .
لا حل سوى باقتلاع هذه العشوائيات الثقافية، واعاد النظر فيمن تسلل/ت منها الى النقابات الرسمية، ولكي نقتلع هذه العشوائيات أعود لما طالبت به سابقا وابقى اطالب به، وهو ان تشكل لجان ( رقابة فنية) في كل مجالات الإبداع، لكي تقوم هذه اللجان بفلترة الإبداع وإعادة القشلويين الى قشلتهم والكارتونيين الى شهاداتهم وورقها المقوى ؛ فليس من المعقول ان يصبح مبدعا كل من لديه مايكفيه لطبع عشرات الكتب التي يسميها شعرا او قصة او رواية ! ؛ نحتاج الى معايير جديدة وصارمة، ولحين الاتفاق على هذه المعايير سأكتفي بهذا الحد، لأنهي هذا المقال.
ختاما اقول : الدردشة على الخاص .. ملعون من اخرجها إلى القشلة ليمنحها صفة الثقافة .
https://telegram.me/buratha