عادل الجبوري ||
أشلاء متناثرة لأجساد أطفال ونساء ورجال أبرياء، وبقع دماء، وصرخات وعويل وآهات، وسلع وبضائع التهمتها النيران، وأخرى تبعثرت في كل الزوايا والأرجاء. هكذا كانت صورة مشهد التفجير الإرهابي الذي وقع في سوق شعبي بمدينة الصدر قبل حلول عيد الأضحى المبارك بوقت قليل، ليوقع أكثر من ثلاثين شهيدًا وما يزيد على ستين جريحًا في حصيلة أولية لوزارة الصحة العراقية، إلى جانب الأضرار المادية الكبيرة التي لحقت بسوق الوحيلات، المكتظ بعشرات المحال التجارية الصغيرة إضافة إلى "البسطات" التي يفترش أصحابها الأرصفة على طولها.
تنظيم "داعش" الإرهابي، لم يتأخر في اعلان مسؤوليته عن التفجير الارهابي الدموي، عبر بيان له تداولته المواقع الرسمية التابعة له. القراءة الدقيقة للحدث تستوجب التوقف عند دلالات ودواعي اختيار الزمان والمكان، من أجل فهم طبيعة الرسائل التي أريد ايصالها، وما يمكن أن يفضي إليه الحدث - التفجير من تداعيات أمنية وسياسية لاحقة.
وفيما يتعلق بالزمان، فإن فيه اطارا قصيرا، يرتبط بعيد الأضحى المبارك. ومن يراجع المراحل السابقة، يجد أن المجاميع الارهابية المسلحة، سواء "القاعدة" أو "داعش"، اختارت عدة مرات اقتراب موعد العيد لتنفذ عمليات اجرامية تستهدف الأسواق الشعبية المكتظة بالمتبضعين، لتوقع أكبر عدد من الضحايا في صفوفهم من جانب، ومن جانب آخر لتحيل أجواء العيد البهيجة إلى مآتم وأحزان. ولعل الكثيرين يتذكرون، على سبيل المثال لا الحصر، الكارثة التي وقعت في منطقة الكرادة في مثل هذه الأيام، وقبل حلول عيد الفطر المبارك، قبل خمسة اعوام.
وهذا النهج التكفيري الدموي، لم يقتصر على العراق، بل إن عمليات إرهابية مشابهة من حيث اختيار التوقيت وطبيعة المكان، وقعت خلال الأعوام الماضية في دول أخرى مثل افغانستان وباكستان.
أما في إطار زمني أبعد وأطول، فإنه لا يمكن فصل مثل هذه العمليات الإجرامية عن الضغوطات السياسية والشعبية المتواصلة والمتزايدة لانهاء التواجد الاجنبي - الاميركي من الأراضي العراقية، وهو ما تماطل به واشنطن كثيرًا، فضلًا عن قرب حلول موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة، المزمع اجراؤها في العاشر من شهر تشرين الاول - اكتوبر المقبل، أي بعد أقل من ثلاثة شهور، علمًا أن هناك دوائر خارجية وحتى داخلية تسعى جاهدة الى اعاقتها ومنع اجرائها بأي شكل من الاشكال.
وفيما يتعلق بدلالات اختيار المكان، من المعروف أن الجماعات والتنظيمات الارهابية تحرص على استهداف المناطق الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية، وبتحديد أكبر، استهداف الاسواق في أوقات الذروة، حيث كل المحال التجارية مفتوحة، والأسواق مكتظة. وحتى لا نذهب بعيدا، فإنه خلال الشهور الستة الأخيرة، وقعت عدة عمليات ارهابية في مدينة الصدر وفي الباب الشرقي وسط العاصمة بغداد وفي الكاظمية، تسببت بعشرات الشهداء والجرحى.
ولعل من ضمن المخطط والرسائل التي ينطوي عليها التفجير الأخير والتفجيرات المماثلة التي سبقتها بأسابيع أو بشهور قلائل، هي أن تنظيم "داعش" الارهابي، ما زال موجودًا ومؤثرًا وقادرًا على الوصول إلى المكان الذي يريده، وأن الإجراءات والخطط والمؤسسات الأمنية والاستخباراتية العراقية، ما زالت قاصرة أو عاجزة عن منع التنظيم من الوصول الى أهدافه، ناهيك عن المعالجات العقيمة وردود الفعل المتسرعة وغير المجدية لأصحاب القرار، وهذا ما يدفع البعض للذهاب الى منطق القول ببقاء الاحتلال الأميركي للعراق سواء تحت عنوان التحالف الدولي، أو أي عنوان آخر، بحجة ردع "داعش" والحؤول دون تمدده وتكرار سيناريوهات صيف عام 2014.
والملفت في هذا الجانب، أن أوساطًا ومحافل سياسية ووسائل إعلام غربية وعربية راحت تتحدث في الآونة الأخيرة وتحذر من عودة "داعش"، وهذا ما تناولته صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرًا في تقارير استقصائية مفصلة لها، وقبل ذلك كانت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، قد صرحت بأن "فرنسا ترى أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لا يزال موجودا، حتى أنه يمكن الحديث عن شكل من أشكال عودة ظهوره في سوريا والعراق".
وعلينا أن لا نهمل أو نغفل، عمليات التخريب والتدمير التي طالت خطوط وأبراج نقل الطاقة الكهربائية في العراق، مما تسبب بشلل شبه تام، وانقطاع يكاد يكون شاملا للكهرباء في الكثير من المدن والمناطق في ظل موجة الحر الشديدة، ولم تكن عصابات "داعش" الارهابية بعيدة عن التورط في عمليات التخريب هذه. ولا شك أنه اذا أضفنا التبعات والآثار النفسية والانسانية الكبيرة جدًا للتفجيرات الارهابية الى التأثيرات الاقتصادية والحياتية الفادحة لعمليات تخريب شبكات الكهرباء والمياه وغيرها على المواطن العادي، حينذاك يمكن تشخيص الجهات والاطراف التي تقف وراء التخطيط والتنفيذ لما يجري، وجوهر وماهية الأهداف التي يراد تحقيقها والوصول اليها من وراء كل ذلك.
خلط الأوراق في الشارع العراقي مجددًا، من خلال إغراقه بالارهاب الدموي والفوضى الأمنية، وتخريب البنى التحتية والمنشآت الحيوية، وانعدام الخدمات الاساسية، وسط عجز وفشل واضح وملموس في الاداء الحكومي، من الطبيعي جدًا ان يهيئ الارضيات والظروف المناسبة لتمرير الأجندات الخارجية، ويتحول النقاش من وجوب انهاء الاحتلال الأميركي الأجنبي بأسرع وقت ممكن الى البحث في مدى أهمية استمراره لفترة أطول، للمساعدة في منع انزلاق الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الى الحافات الخطرة والمنعطفات الحرجة، وهو ما تروج له واشنطن ومن يدور في فلكها، وتفجير مدينة الصدر الأخير وقبله وقبله تفجير ساحة الطيران والكاظمية وغيرهما، وازمات الكهرباء، ليست الا رسائل القوم ونذر الشؤم لما هو أسوأ وأفظع.
https://telegram.me/buratha