✍ د. عطور الموسوي ||
لم تكن فتوى الجهاد الكفائي أول مبادرة لسماحة المرجع الأعلى في انقاذ العراق من منزلق خُطط له، ومنذ سبعة عشر عاما مضت، والعراقيون قد خرجوا من دهليز الاستبداد وحصاره الخانق لعقود طوال وقد أغشت أبصارهم تلك الأشعة البراقة لمفاهيم لم يتمتعوا بها قبل التاسع من نيسان عام 2003ومنعوا من التهامس بها فضلا عن المطالبة بها، ديمقراطية ، حرية تعبير عن الرأي، حق التظاهر، مساواة أمام القانون بغض النظر عن أي معيار تمييز عانوا منه وهشّم بنية مجتمعهم وولّد أحقادا وشعورا كبيرا بالحيف والتهميش لكل من لم يرضخ لصدام وعنجهّيته الحمقاء وولعه الشديد بالحروب والدماء..
ولكن لا غرابة في ذلك مادام التغيير قد حصل بإحراق ورقة العبد الذليل من قبل أسياده يوم وجدوا أن دوره قد انتهى ليفر مذعورا في جحر تأبى العيش فيه حتى الدواب، وليخرجوه كجرذ مذعور بهيئته الحقيقية التي جملتها أيدي أمهر الفنانين في شؤون الحلاقة والتجميل وخدعت الناس بذلك الوجه المزيف، ومنّ المحتل علينا وأراد أن يصب علينا سياساته مقولبة بغض النظر إن كانت تلائم مجتمعنا أم لا ..
عام 2003 حقنت المرجعية العليا الدم العراقي ومنعت أولياء دم المغدورين على يد البعثيين من العمل بالثأر والقتل لأن هذا لا يقود الا الى المزيد من الدماء وإنما عليهم أن يلجأوا الى القضاء ليقتص من الجناة.
أدركت المرجعية العليا في النجف الاشرف خطر ما يراد لبلد الأنبياء والأئمة الأطهار من تطبيق برامج عالمية لا تتناسب مع الإرث الحضاري والديني له، فانبرى سماحة السيد المرجع الاعلى وتصدى عام 2004 ليعلن أن الدستور العراقي يجب أن تكتبه أيادٍ عراقية ولا مجال للتصويت على دستور مستورد مهما كان مصدره، من تلك اللحظة أدركت قوى الاستكبار أن ثمة ندّ لهم، قوي يملك زمام أمور العراق وإن كان لا يقطن قصورا فارهة ولا يحيطه رجال مسلحين، وكتب بول بريمر كثيرا عن هذه الشخصية الفريدة التي تنقاد لها قلوب العراقيين بكل رحابة وامتنان دون أي تحشيد أو اعلان.
أفزعهم ذلك السيل البشري المليوني الذي استقبل سماحته من البصرة وهوعائد من رحلة علاج عام 2005وسار يحف بسيارته حتى مدينة جده أمير المؤمنين مشيا على الأقدام، وحطّم أمانيهم في تشتيت جمع المكون الاكبر في فتنة اياد علاوي وجيش المهدي، وكيف لملم الاطراف بهدوئه المعهود لتضع حربا أهلية أوزارها وتهدأ النفوس وتعود مدينة النجف لوجهها البهي بعد أن غدت أغلب احيائها ركاما.
خيب أمالهم في فتنة الطائفية (2006- 2007)وأطلق كلمته الخالدة : "إنهم ليسوا اخوتنا وإنما أنفسنا .." ومن أسعد حظا ممن يصفه المرجع الأعلى بأنه نفسه، ولكن ما جدت ولم تجد أمام المال الخليجي وعبوديتة حكامه لأعداء الاسلام.
إنه هو وليس غيره من وقف ويقف شوكة في بلعوم كل من يريد بنا سوءا دون أن نناشده ودون أن نشكو اليه، ومن المؤكد أنه لن يترك العراق يُبتلع من قبل أراذل الخلق وشراذمهم وشذاذ الآفاق وهم قادمون من أصقاع الأرض مضلًلين بحقد دفين تناقلوه نسلا بعد نسل من هند بنت عتبة وزوجها أبي سفيان طلقاء مكة وحفيدهما يزيد وأبيه معاوية..
ومن صحن حضرة سيد الشهداء وفي يوم الجمعة 13 من حزيران 2014وهي جمعة ليست كسابقتها حيث القلوب حرى والامهات ثكلى وعدد الارامل والايتام قد تزايد في أيام القلائل، وإذا بسماحة المرجع الأعلى يقلب الطاولة على من خطط لإعادة العراق الى عهد الاستبداد ويصدر فتوى الجهاد الكفائي بصوت الشيخ الجليل عبد المهدي الكربلائي وقد تهدّجت عباراته وانتشرت لتصل أسماع الحاضرين في الحرم الحسيني والمتابعين لهاعبر الأثير أو شاشات التلفاز..وضج المصلون بالتكبير والصلوات شكرا لله على نعمة وجود هذه الرحمة الإلهية بين ظهرانينا.
إذ خاطب الكربلائي في الخطبة الثانية أبناء القوات المسلحة قائلاً :اجعلوا قصدكم ونيتكم ودافعكم هو الدفاع عن حرمات العراق ووحدته وحفظ الأمن للمواطنين وصيانة المقدسات من الهتك ودفع الشر عن هذا البلد المظلوم وشعبه الجريح.
ثم قال الكربلائي : وفي الوقت الذي تؤكد فيه المرجعية الدينية العليا دعمها واسنادها لكم فانها تحثكم على التحلي بالشجاعة والبسالة والثبات والصبر وتؤكد على إن من يضحي بنفسه منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضهم فإنه يكون شهيداً إن شاء الله تعالى.
وأضاف : المطلوب أن يحث الأبُّ ابنه والأمُّ ابنها والزوجة زوجها على الصمود والثبات دفاعاً عن حرمات هذا البلد ومواطنيه. وتابع قائلاً : إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي ، بمعنى أنه إذا تصدى له من بهم الكفاية بحيث يتحقق الغرض وهو حفظ العراق وشعبه ومقدساته يسقط عن الباقين .
ثم قال : ومن هنا فان المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية...
تلقفتها الجماهير برحابة صدر وانطلقت من كل حدب وصوب في محافظات الوسط والجنوب نافضين عنهم غبار القهر والاستبداد الذي عاشوه تحت ربقة حكم البعث ورأسه المقبور، وحاملين أوسمة شهادة لأب أو أخ وربما لكل الأهلين، فصدامٌ أمعن في تقتيلهم وبشتى وسائل الموت ظنا منه القضاء عليهم، ولم يدر أن الشهيد كالسنبلة إن ماتت أنبتت سبع سنابل ..
بغداد تبسمت وهي تراهم يطوقونها بقلوب عامرة بالايمان وتفان ليس له نظير، وخفّ هلعها من اولئك الذين رفعوا شعارهم الدنئ :" قادمون يا بغداد " .. وسدد الله جهود متطوعي الفتوى بالنصر وكيف لا وهم ينصرون دينه ويعملون لدفع الخطر عن عباده : " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"..
وبانت تباشير الفتح واحدة تلو أخرى وضرب هؤلاء الأبطال أمثلة فريدة في قتال عقائدي، إذ يتسارع أحدهم الى الشهادة غير آبه بقلة عدده وعدته بل مطمئنا بأن الله معه.. وعادت واقعة الطف من جديد وعانق المتطوعون الشهادة كأصحاب الحسين (ع) وهم على يقين أنهم سينالوا إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.. بهكذا عقيدة وبهكذا تفان هزمت عصابات الشر وتحررت أرضنا تباعا، وذهل العالم بمن دافع عنه ورد ايدي تلك الشراذم الى نحورها .. نعم أبطال الحشد دفعوا شر تلك العصابات عن جميع الدول التي قرر اولئك المارقون أنها ضمن دولة خلافتهم الضالة المضلة.
ولعل أشد ما أذهل سكان المناطق المحتلة التعامل الفريد من نوعه لهؤلاء الرجال شبابا وكهولا معممين وأفندية وشيوخ عشائر وفتية صغار المنصهرين في بوتقة الحشد.. كانوا خداما لأهالي تلك المناطق وأسوتهم في ذلك أئمتهم الأطهار، ولم يشهد التاريخ المعاصر مثل مروءتهم وانسانيتهم وهم يطبقون مبادئ حقوق الانسان بمعاييرها العالمية دون أن يدرسوها، وانما استلهموها من نهضة الحسين سيد الشهداء.
وفي ذكرى الفتوى المباركة وتشكيل الحشد المقدس نقول لكل ناكر جميل من العراقيين وغيرهم عبارة واحدة فقط : تخيلوا واقعكم لو لم ينطق ذلك الشيخ الوقور، ولو لم ينهض هؤلاء الغيارى، والحليم تكفيه الاشارة.
https://telegram.me/buratha