د. نعمه العبادي ||
نخرج إلي الحياة و (أنا) طافحة الظهور، كاملة البيان، تعبر عن أعماقنا وظواهرنا بأصدق تعبير، فهي تساوينا حقيقة، ثم ما أن نتحرك في دروب الحياة خطوات بسيطة حتى تبدأ (مقاص الواقع ومحددات الظروف) تقضم من (أنا) ثلمات، وتضيف لنا مما لا ينتمي لنا (حقيقة) أجزاءً بديلة، إذ تعيد تشكيلنا بحسبها في كل مرة بصورة جديدة.
ومع تعقيد توازنات الحياة، وإرتفاع سقف إشتراطاتها، وتشابك معادلات المصالح، وتداخل الضروري مع غيره، نتبرع (طوعاً) في دفع ال (أنا) الحقيقة لنا إلى الخلف، حيث مناطق الظل الذي نخبأها فيها، ونظهر بدائل (لا تعبر عنا)، لكن متطلبات الواقع تفرضها علينا هذه المعادلة الظالمة.
ومع استدامة مسيرة الحياة، يأخذ الأمر فينا أحدى ثلاثة صور، فإما ان نكون من السعداء، حيث خيارتنا في (الحب والعيش والشراكة والمصير) متوافقة تماماً مع (ذاتنا الحقيقية)، فينمو ويكبر كل شيء فينا بطريقة متوازنة، وتنعم أرواحنا بحالة إستقرار وطمأنينة، ويتزايد إبداعنا مع كل جرعة حب، ونجد أرواحنا متصالحة مع الكون كله، وإما ان تكون الخيارات متذبذة (وهي حالة الأغلب)، فمرة تأتي متوافقة ومتسقة مع (أنانا)، وأخرى تشط بنا الى عالم لا ننتمي إليه، ونضطر قهراً ان نتوافق معه أو أن موازنة المصالح والمفاسد تقتضي التعايش معه، وغالباً ما تكون حالة اللاتوافق هي السائدة، وأما صورة المحنة، فتلك التي تأخذنا لها دروب التيه ومحطات الضياع والخيارات الخاطئة أو المفروضة، حيث (نسلخ) من ذاتنا بسوط القهر، ونصبح وجودات (لا نشبه أنفسنا)، ويتكسر وجودنا في زوايا العمق، حيث يركلها الواقع الظالم بقسوة ليمنع ظهورها الى الوجود، ويغيب (كلنا الحقيقي) في غياهب الظل، ليتسلل في فلتات الاحلام المذبوحة، وسطور الأمنيات الضائعة، وربما في بعض الفسح التي تسمح لنا بأن نكون (نحن) كما نحب في ثنايا بوح يتيم، وقد تبلغ الشجاعة فينا حداً، فنثور على اسيجة الظل ودهاليز التغييب، ونعلن الثورة من أجل وجودنا، لنستنقذ ما بقي منا، على ان تدارك كل ما فات لن يكون متاحاً.
مسميات مختلفة (التعايش، التوافق، الواقعية، التورية، المجاملة، المسايرة،...) كلها تعبر عن صور معينة لدفع الذات إلى الخلف (بغض النظر عن مشروعية الأسباب من عدمها)، فهي صور تريد أن نكون (غيرنا) بدرجات متفاوتة، وهكذا تستمر الحياة في إعلاء أسيجة القهر، وتكثيف مناطق الظل.
صوت من الاعماق يركض خلف ألعاب الأطفال، والملابس ذات الألوان الزاهية، ودندنة الوجد، وقصص العشق، وأماكن وأزمنة تشبهننا، يلتقط أنفاسنا من رحلة غيب بلا عنوان، ويعيد وجودنا إلينا ولو في (نفخة ناي مقطوع الرأس).
قد يوحي النص ان هذا الحديث يتصل ب (الوجداني) فقط إلا ان مقصدنا فيه يشمل كل مظاهر حياتنا الوجدانية والعملية والاجتماعية والسياسية على حد سواء.
https://telegram.me/buratha