د.نعمه العبادي ||
يقدم (The father) ثالوثاً من نمط خاص، وهو يمارس عملية تصعيد عبر تكرار يتفلت من الاصابع في ظل مراوغة حدثية وصورية تحوم حول نقطة المركز (الأب).
يمثل المشهد الاخير من الفلم حكاية لتراجيديا موجعة تكشف بطريقة رشيقة (عورة وجودنا الضعيف) حينما ننقطع عما نرتكز عليه، وهي لحظة تعيدنا الى حالة إستغاثة مبكية بحثاً عن الملجأ الآمن: (أريد أمي؟ أين أمي؟).
يفتك المحو بذاكرة الأب (أنتوني) فيجعله مسرحاً لتقلب الصور عليه في ظل اضطراب، تفنن المخرج فيه، حتى كاد المشاهد يدخل في حلقة الاضطراب جراء عملية التداخل بين الاحداث الحقيقية والاحداث الموهمة، وفي كل ذلك تناضل (آن) الأبنة النبيلة، والساعة المنتظمة التي تلازم أنتوني في كل لحظة إلى إعادة التوازن، والقبض على بعض الذاكرة دون جدوى.
الأب الذي يعيش الاضطراب بسبب فقدانه التدريجي لذاكرته مع استحضار ذاكرة بديلة مخلقة، متحركاً بين إنكسار الذات في ظل حالة الضعف التي تسيطر عليه وبين محاولة إستعادة بعض من ذكريات يتشبث بها في نضالها مع البنت المتوجعة لحالة أبيها، وهو يحاول (عبثاً) القبض على لحظات زمانه بساعة وصورة مستقرة لشقته وأبنته التي ماتت في حادثة، وقد أوهمه النسيان أنها مسافرة.
في المقطع الاخير لحظة الاعتراف العظيم، يلاحق أنتوني مساعدته كاثرين بسؤال: (من هذا؟) إلى أن يبلغ الذروة عندما يسألها (من أنا؟)، فعندها يضج باكيا ويفزع الى الذاكرة البعيدة حيث عيني أمه الكبيرتين، ويناديها بلغة الطفل الصغير مستغيثا بها لتخرجه من المكان، ومعلناً: (لقد طارت كل أوراقي، وسقطت كل اغصاني، ولم يعد لي محل أضع رأسي عليه).
يتحدث الأطباء وعلماء الفسلجة عن موت القلب وموت الدماغ، إذ يمكن للانسان أن يعيش زمناً بطريقة طبية معينة بعد موت الدماغ، وهما صورتا الموت المعروفة إلا ان هناك صورة أخرى لم يتم تداولها كحالة للموت، وهي موت الذاكرة، فمع أن الفقدان التام للذاكرة لا يعطل القلب او الدماغ إلا أنه صورة موت معنوي تعني إنقطاع قدرة الإنسان على التعاطي مع الواقع، حيث يتفلت من يد الماضي وينزلق في دروب الحاضر بعمى معرفي، لا يمكن معه الوقوف على أي شيء من الحقائق.
على الرغم من ان (The father) لم يوسع الاشكالية خارج حدود (الفرد)، وهو يعرض عبر معالجة اخلاقية إنسانية وأحيانا فكاهية حالة التعاطي مع فقدان الذاكرة عند الوالدين او احد افراد الاسرة وطريقة التعاطي معهما إلا أنني أمضي بالاشكالية لما هو أوسع وأكبر، فقد أصبح مألوفاً ان يعيش العالم دون حاستي الذوق والشم، وقد تصورت رواية العمى وباء العمى الفجائي إلا ان هذا الافتراض لم يوضع حيز النقاش، فماذا لو أصبح العالم فاقداً لذاكرته؟
بكل صدق، إنه سؤال مرعب، يتجاوز في تخويفه صورة عمى العالم الكلي، وهو ما يفتح المجال لنقاش معرفي عميق حول مكانة الذاكرة في الحياة.
https://telegram.me/buratha