د.أمل الأسدي ||
(1)
أسعد الأوقات بالنسبة إليها،تلك الأوقات التي تقضيها واقفة في المطبخ،تُعد لأولادها ما يشتهون،( أم حيدر )
قد أودع الله فيها شيئا من صفاته،قلبها الرؤوف،صبرها المعتق،كرمها المتقد،حنانها الربيعي،،كل تلك الصفات جعلتها خيمةً فاطمية المحبة، تجمع أبناءها الثلاثة وبنتها الوحيدة، وأباهم(محسن التميمي) الذي أرهقه الزمن.
رمضان هذا العام كان شتويا،حلّ في ذروة الشتاء،مما جعله أكثر تميزا،وجعل أوقاته أكثر متعة،فالكل يفضل الشتاء علی الصيف في العراق،لأن الصيف لاهب،شديد الحرارة؛لذا كان لرمضان نكهة خاصة هذا العام،نكهة لاتخلو من منغصات بسبب امتحانات نصف السنة،فكل العوائل مشغولون بمتابعة أبنائهم، وأم حيدر أيضا تتابع ابنتها الصغيرة (رقية)فهي في الرابع العام،تدرِّس،وتنظِّف،وتطهو ،وتخبز ضحكتها رغيفا،وتقدمه ساخنا لأولادها،وتدعو أن يكون عام 1996 عام خير وفرح ومحبة.
(2)
ابنها الكبير حيدر،قرة عينها الذي تخرح قبل ثلاث سنوات من كلية الآداب،قسم اللغة الإنكليزية،وفقه الله في عمله وجزاه علی سني الدراسة والكد في آن واحد،جزاه خيرا وفيرا إذ توفق في عمله وصارت لديه مكتبة ومطبعة صغيرة،وبدأت الحياة تبتسم له،وقد تزوج قبل أربعة شهور من فتاة تعرف عليها ،تعمل في دار الكتب والوثائق العراقية،تدعی: ميثاق الدوري،كانت جميلة،هادئة،لاتحب الاختلاط بالآخرين،ولاسيما أهل زوجها!
( أم حيدر) بطيبتها وبحبها لحيدر لم تظهر انزعاجها من سلوك (ميثاق) وتعاملها بفوقية معهم، لم تظهر انزاعجها وفي داخلها ألف سؤال!!
بماذا تتميز عنّا كي تعاملنا هكذا؟
هل ينتبه حيدر الی سلوكها معنا؟
هل هذا جزاء انتظاري؟ انتظرته أن يكبر وينجح كي أسعد به وبإخوته!! هل يُعقل أن تحول زوجته لحظات زيارته لنا إلی كابوس ثقيل؟
وتظل تسأل وتسأل ولايشاركها أحد إلا زوجها،رفيق الآهات والمكابدة...
(3)
صوت الجرس،أتی حيدر، سأفتحُ له الباب...
أمي، جاء حيدر
رقية: ياهلا، تأخرت اليوم، وا،لله لو أنك لم تأت لما أفطرنا اليوم،هههه حبيب قلب أمه من دونه تتوقف الحياة
حيدر: رقيتي الجميلة، كيف أتأخر عنكم؟
رقية: أهلا ميثاق،كيف حالك؟
ميثاق:بخير
كان ردها باهتا مثل كل مرة،أحست رقية بكسرة في داخلها،لكنها أخفتها ولم تتوقف عندها
ـ هلا يمة، اجيت وردت روحي ونوّر البيت
هكذا هي الأم،لاتستلذ الحياة من دون أبنائها، سبحان من خلق قلبها!!
تنكر ذاتها تماما لأجلهم،ولاتشعر بتعب ولاتضجر ولا تشكو،أهم ما يشغلها هو أن تری أولادها مجتمعين حولها،ولاسيما في شهر رمضان،فسفرته عامرة بالمحبة قبل أن تعمر بأصناف الأطعمة،وحين يكون الحديث عن مطبخ أم حيدر، يكون حديثا عن الأناقة البغدادية،والبريق المختلف،والأطباق المتقنة، ْفنكهتها وطعمها و(اللمة الحلوة) لها وقع آسر.
(4)
(من الذي لايحب فاطمة)مسلسل مصري كان يُعرض مع الإفطار، الكل يتابعه،حتی حيدر الذي لا تستهويه المتابعة صار يتابعه وينتظره،فشخصية (فاطمة) وحبها الصادق، وتضحيتها ،جعلت من حضورها في المسلسل مؤثرا، ولا أدري قد يكون حيدر يبحث عن صفات يفتقدها في المرأة التي كان يحلم فيها،هذه الصفات متجسدة في شخصية (فاطمة) فهو يخفي شعورا دفينا ،شعور الخيبة والإحباط،مشوبا بنوع من الندم، لأن بوادر الخلاف وعدم التوافق مع زوجته(ميثاق) بدأت تظهر!
انتهی المسلسل والعائلة مجتمعة حول الأم ينتظرون (استكان الچاي المهيل) من يدها،وهي مستمتعة بوجوههم وضحاتهم ومزاحهم، ومستغربة من صمت (ميثاق) إلا أنها تخفي استغرابها، وأحيانا ترد علی نفسها قائلة: لابأس،ربما تعتاد علينا أكثر فتتغير!
سيذهب حيدر الی منزله الآن، اقترح علی رقية أن تأتي معه كي يدرسها مادة اللغة الإنكليزية،لم توافق رقية،استثقلت الذهاب معه، وذلك لمواقف (ميثاق) وتعاملها الفوقي معهم، لكن أمها بادرت بالقول: اذهبي مع اخيك...
ذهبت معهم وهي مرغمة وفي داخلها استياء وضيق غريب،وصلوا الی المنزل،دخلت ميثاق الی غرفتها مسرعة،بقي حيدر محرجا،جلس مع أخته قليلا، ثم لحق بميثاق..
ـ ماذا بك؟ لماذا دخلت الی الغرفة مسرعة ولم ترحبي بأختي وهذه أول زيارة لها ؟!
- اسمع ،لقد مللت، كل يوم نذهب عندهم ،وكل يوم نفطر عندهم، أنا تزوجتك أنت،ولم أتزوجهم
ـ اخجلي ميثاق،هولاء أهلي،وهذا شهر رمضان،شهر التراحم والتواصل،كيف لا أذهب لهم ولا أفطر معهم؟!
- اذهب أنت،لست مجبرة علی التعامل معهم والأكل معهم،وقضاء الساعات معهم!!
- تتشرفين بذلك،هولاء أهلي،قدرهم من قدري،وبيتهم بيت الخير والمحبة،بيت العز
ـ أهلي أهلي!! أنا أيضا لدي أهل،ولدي بيت أهل
ـ اششش اخفضي صوتك،هذا عيب،أختي ستسمعنا
ـ أتحرِّم عليّ التحدث في بيتي؟ أية مصيبة هذه التي تورطت بها
ـ بل أنا الذي تورطت، أنتِ نسيت مافعلته لأجلك؟ نسيتِ أني تحملت وضحيت لأجلك، نسيت أني أخفيت أمركِ عن أهلي؟
ـ تعيرني؟ لم أضربك علی يدك، وأنصحك أن لاتردد هذه التفاهات،فلن يصدقها أحد بعد زواجنا
ـ أنتِ!!هل تدركين ما تقولينه؟
ـ هيا، أوصلني الی بيت أهلي
ـ اخجلي واصمتي،أختي هنا
ـ طز
ـ نعم التربية
مسكينة (رقية) غصت بحسرتها،لم تستطع التحمل،تشهق وتبكي،تشعر أنها هي السبب في هذا الشجار،بمجرد أن خرج أخوها ارتمت في حضنه وهي تقول: أرجعني الی البيت
حاول حيدر أن يتماسك أمام دموع صغيرته المدللة، قال لها : حسنا،لك ما تريدين
خرجوا جميعا،أوصل (ميثاق)الی بيت أهلها،وعاد الی بيت أهله، وضع رأسه في حضن أمه وهو يفكر بالقادم ،تری كيف سيكون؟!!
(5)
مر أسبوع علی زعل ميثاق وذهابها الی بيت أهلها،حيدر قد أوشك علی اتخاذ قرار بالانفصال، فهو يشعر أنه تورط ورطة كبيرة معها، تكشّفت له أمور كثيرة،هذه المرأة لاتحبه،لاتحترمه،لاتحترم أهله،فضلا عن السر الذي ينخر روحه في كل لحظة!!
أمه وإخوته وأبوه ورقية كلهم يحاولون أن يقفوا
بجنبه ويعينوه ليتخذ القرار المناسب الذي يضمن له حياة هادئة...
قالت له أمه: إذا كان الأمر متعلقا بنا،فلا تطلب منها المجيء هنا،تعال أنت فقط لنراك،ولن نأتي لزيارتك أبدا و ..
ـ أمي بربك،كيف تتحدثين هكذا؟ أنا وأنتم واحد،أنتم أهلي،هيبتي وكرامتي، وأنتِ أمي،تاج رأسي...فلا تتحدثي هكذا !!
ـ كل ما يهمني أن تستقر وتنجح في حياتك
ـ إن شاء الله،لاتقلقي عليّ
حان وقت الإفطار،مثل كل مرة كانت المائدة عامرةً وزاهية وشهيةً،ومسلسل (فاطمة قد بدأ) هذه الحلقة الأخيرة كما يبدو،هكذا قالت رقية،وهي تتناول حساء العدس...
رن جرس البيت، نهض حيدر ليفتح الباب،وقبل أن يصل اقتحموا المنزل،رجال بزي مدني، مسلحون ،دخلوا الی المنزل وقلبوا كل شيء فيه،لم يبقوا زاوية من زواياه،يعبثون ويكسرون ويشتموننا،ثم أزاح أحدهم أطباق الطعام من علی الطاولة ورماها أرضا وهو يقول: خونة عجم،عبالكم الله يتقبل منكم؟
حاولت أمي أن تسألهم: شتريدون؟
فرد عليها أحدهم بشتيمة وألفاظ معيبة لايمكنني تكراراها!!
ثم قيدوا يدي حيدر وأخرجوه معهم،وأمي تتوسل بهم، من أنتم؟ وحيدر يصرخ بكرامة: يمة عوفيني،فوتي انتِ ورقية جوه!!
ـ من أنتم؟ أرجوكم،فقط أخبروني
ـ نحن الأمن
والدي حاول معهم:خذوني أنا بدلا عنه
فضربه أحدهم علی وجهه، مما أثار إخوتي وتعالی الصراخ في ذلك الغروب الثقيل وخرج الجيران يتفرجون ويخافون الاقتراب!!
ٜٜٜٜٜٜٜ
أمي،لماذا لم تكملي إفطارك؟ لماذا يبست حديقتنا؟
حيدر، تسمعني؟ هل ستخضر الحديقة؟
أبي، هل يمكن للسقف أن يرتفع من جديد؟
أشرقت الشمس الآن،رفعت عينيها، منارة الإمام بدت قريبة جدا، قريبة الی الحد الذي يجيب عن كل أسئلتها!!
جلست وتمتمت:
سيولد النهار من جديد
ويستمر النخيل في قانون رفعته!
وستفطرين يا أمي،في يوم ملكوتي قادم...
https://telegram.me/buratha