ضحى الخالدي ||
من الآفات السياسية والاجتماعية التي ألمّت بالعراق والعراقيين خلال الخمسين سنة الأخيرة، ابتلاؤه بأكثر من رئيس (يا دوب يفك الخط) ولديه شهادة فخرية بالحقوق، لذلك يصب جام حقده على العملية التعليمية والتربوية، والمثقفين في العراق.حين استلم المقبور صدام مقاليد الحكم في عام ١٩٧٩ كان مستوى التعليم في العراق يضاهي نظيره في الدول الإسكندناڤية، وكان خريج الفرع العلمي بمعدل ٨٥٪ يتمكن من دخول كلية الطب، وكان الطلبة المبتعثون الى أوروبا لإكمال الدراسات العليا يحصلون على جوائز قيّمة من الدولة العراقية والجامعات الأجنبية التي تخرجوا منها إذا كانوا من الأوائل والمتميزين في رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه بحيث تتسم بالرصانة والجِدة، فتصل الجوائز الى التكريم بسيارات آخر موديل في وقتها.ورغم أن الحقبة كانت بعثية لكن يُحسب لها أنها ورثت رصانة التعليم من الحكومات السابقة وحافظت عليها، لا سيما في عهد وزير التربية السابق محمد محجوب الذي كان من ضحايا قاعة الخلد.عُرِفَ عن صدام حقده على المثقفين، وانتقامه من البعثي عبد الخالق السامرائي لم تكن دوافعه أكثر من الغيرة الشخصية من تربيته وثقافته ومستوى تعليمه!!
خلال خمس سنوات من حكم صدام استطاع أن يضع العصا في عجلة التربية والتعليم، فظهرت بدعة الدروس الخصوصية التي لا نجاح دونها، حتى تحوّلت الى سُنَّة وفريضة حتى يومنا هذا،ومَنْ خالَفها صبَأَ عن دين الدراسة في العراق.أضاف عشرة درجات فوق معدّل رئيس اتحاد الطلبة والشباب في كل مدرسة، وخمسة درجات للأعضاء، وخمسة درجات لأبناء الشهداء والأسرى،وأبناء حاملي شارة الحزب (الرفاق الذين أكملوا خمسة وعشرين سنة في الانتماء الحزبي) وأصدقاء الرئيس، مما جعل الضغط على كليات المجموعة الطبية هائلاً فارتفعت الحدود الدنيا للقبول، وصار الحصول على معدلات ١٠٥ و ١٠٢ و ١١٣ (زلاطة) وصار عدد من الطلبة الذين كانوا أبناء حملة شارة الحزب ورؤساء اتحاد الطلبة والشباب، مضافاً لها درجتان لعدم الرسوب، أي تضاف لمعدلاتهم ١٧ درجة، ينافسون الطلبة المتميزين ويتفوّقون عليهم بالواسطة، ناهيك عن ازدياد حالات الغش الفردي والجماعي، وتبديل الدفاتر، لذلك قلت مرة: ما فائدة إحراز معدل ١٠٠ في الامتحانات العامة للمدارس الثانوية ودخول كلية الطب ، ويتخرج الطالب بدرجة ....
فغضب الكثيرون، ومن حقهم أن يغضبوا، لكن أنا لم أعمم، وأسرتي فيها الأطباء والصيادلة والمهندسون والأساتذة الجامعيون والضباط، لكن الحق حق، كم من طالب في زمن المقبور، وفي زمن الديموقراطية لم يدخل الامتحانات أصلاً، ودخل كلية الطب، أو الصيدلة لأسباب طائفية أو حزبية أو مادية؟وكل الحب والاحترام للطلبة المُجِدّين فعلاً، والذين دخلوا الكليات الطبية والهندسية بمجهودهم الشخصي البحت، مع العلم أن دخول بقية الطلبة للكليات العلمية والإنسانية الأخرى لا يعني أنهم أقل ذكاءً،لكن بناء أي بلد لا يقوم على أكتاف الجرّاحين والصيادلة فقط، إضافةً الى أن الرغبة والشغف بتخصص ما،مهما كان،هي أساس النجاح والتفوّق والتوفيق.
أذكر أن استاذاً جامعياً قُبِضَ عليه بقضية رشوة وصلت الى ٢٢ مليون دينار عام ١٩٩٦ بسبب تبديل الدفاتر الامتحانية، فأوقف عن العمل عاماً دراسياً كاملاً،ثم عاد بشكل اعتيادي لمزاولة عمله بعد أن أعطى المقسوم للدولة.
وأذكر استخدام المقبور لحجة الحصار الثقافي في التسعينيات من القرن الماضي لينتقم من طلبة الجامعات في محافظات الوسط والجنوب، في عام ١٩٩٦ وفي مجلس إحدى الكليات العلمية قُدّمت درجات السعي السنوي للعميد البعثي جداً والطائفي جداً، فقال: ما هذا؟ لا أريد هذه الدرجات! إعملوا (كيرڤ سالب) نحن نمر بحصار اقتصادي!!
قُلِّلَ احترام المعلم والمدرس من خلال تجويعه وتقليل راتبه منذ الثمانينيّات،وتجنيده في سنوات الحرب الثمان، وتسليط أبناء الرفاق والذوات عليه ليضربوه في أي خلاف (حالياً الدگّة العشائرية، ورمي القنابل الصوتية واليدوية، والتهديد بالانتماء للجماعة الفلانية) يذكر لي أحد المدرسين المنتمين للمقاومة منذ تأسيسها، أنه كان مراقباً في الامتحانات العامة للدراسة المتوسطة عام ٢٠٠٦، فوجد أحد الطلبة يغش، فقال له برفق: بابا ليش تغش؟ فنظر الطالب للمراقب شزراً، وقال مهدداً: إمشي وخّر عني آني (...)!!
يقول المراقب: ضحكت في نفسي، وقلت هل انتميت للمقاومة وحاربت المحتل الأميركي والبريطاني وضحّيت بكل شيء، ليغشّ الأطفال والمراهقون باسم المقاومة؟!)
وجاء الحصار ليأكل ما تبقّى من رغيف المعلم والمدرس والاستاذ الجامعي الشريف.ومرّت السنوات العجاف طويلةً، ونحن نحلم، ولسان حالنا يقول: (جاي بكرا نهار جديد... نفرح فيه، ويفرح فينا) واستنزفت مجتمعنا المدارس والكليات الأهلية،وابتلينا بفوج مكافحة الدوام العفلوگي،وزيطة وحسوني الوسخ،وحُرِمَ أبناؤنا من الالتحاق بمدارسهم (المقلقة بمر ئشعب) ثم جاءت كورونا وحظرها، والتعليم الأليكتروني،والحظر الذي يمنع دوام المدارس ويسمح بفتح المولات،وغيرها من التخبطات التي لا نعرف لها رأساً من عقب.حين تُدخِل ابنك، أو ابنتك مدرسة حكومية ثانوية للمتميزين، أو المتميزات، فأنت تكافئهم على جهودهم، وتكافئ نفسك على تعبك وسهرك، حين يكون أولادك وبناتك متميزين في دينهم وأخلاقهم ومستواهم العلمي والفكري والدراسي، ويكون حلم طفلتك أن تصبح رائدة فضاء!! وتتابع التقارير العلمية على اليوتيوب باللغة الإنجليزية، وتجيد الفرنسية، وتكون هي رائدة الصف طوال سنوات دراستها الابتدائية والمتوسطة، وتساعد زميلاتها في أداء واجباتهن،وتبادر لأداء الواجب والتمرين المستعصي على بقية التلميذات،وتكون أنت قد تعبت وسهرت على تربيتها حتى اسودّت جفونك وشاب شعرك،ثم تذهب معها لاستلام نتيجة امتحانات نصف السنة، فتقول لك بكل ثقة وفرح:أرجوكِ بابا، إبقَ في السيارة، سأجلب نتيجتي، وأفاجئكما أنت وماما، وتركض نحو الإدارة، وتأتي الى أبيها ببطاقة نتائجها الوردية كأحلامها دون أن تنظر فيها، فينظر والدها في الشهادة ليجد درجاتها متفاوتة بين ١٠٠ و٩٦، وبين الرسوب بدرجة ١٦ في دروس أخرى أسهل من الدروس التي تفوّقت فيها؟!
ينظر الى بقية الطالبات كلهن ساهمات،أو باكيات من هول الصدمة الجماعية!!حين يحدث كل ذلك، يتبادر الى ذهنك عدد من الأسئلة:ماذا تريد يا زيطة؟أن تجبر الناس على دخول المدارس الأهلية؟أن تقتل الطموح في نفوس طلبتنا المتفوقين والأذكياء؟أن تزرع الإحباط في نفوس شباب المستقبل؟أم تريد أن تعيد كرّة صاحبك صدام الحاقد على المثقفين والمتعلمين، فتجعل مدارس المتميزين حكراً على أبناء البعثيين والسنّة والأغنياء، ونبقى نحن الشروگيّة مواطنين من الدرجة الخامسة، أو (بدون)!!أن تدمر التعليم الذي هو عماد أي أمة ناهضة؟هل تريد أن يطالب ذوو الطلبة بالعودة للدوام الحضوري اليومي، فتعلن زيادة الإصابات بالجائحة، مما يمكّنك من فرض حظر (أمني) شامل كالعادة، لا علاقة له بالجانب الصحي إطلاقاً؟قبل اثنتي عشرة سنة كان لي ولد في الصف الأول الابتدائي يرغب بالسفر الى القمر بمركبة فضائية، فسألني ببراءته وسذاجته:ماما، إذا سافرت الى القمر بمركبة فضائية، كيف سأعود لمنزلنا في حي المعلمين!! (المنطقة التي كنت أسكنها سابقاً)نظرت اليه، وقلت بسخريتي المعهودة:إرجع (برَفْ) ماما!!حيث كانت سيارات الرف الروسية هي وسائل النقل العام بين الحي الذي أقطنه، ومركز المدينة.اليوم سيعود أبناؤنا من أحلامهم على سطح القمر ب(تُكْ تُكْ فوج مكافحة الدوام الحكومي)
https://telegram.me/buratha