د.أمل الأسدي ||
شهر رمضان، هو آيةٌ من آيات الكرم الإلهي، وهو مائدةُ الرحمةِ المترعة للعباد، وله أثر بالغ في ذاكرة المسلم ،أثر متعدد الأبعاد، الأبعاد النفسية والروحية والمادية، فعودته السنوية وتفرده، جعلته يرتبط بطقوس وانطباعات اجتماعية، تختلف نوعا ما بين بلد وآخر ، وإجمالا هو شهر الاجتماع والتراحم، هو شهر التكافل والتعاضد.
ولكل شعب من الشعوب عادات وتقاليد وسمات متوارثة،تنتقل من جيل إلی جيل آخر، تحتفظ بها الذاكرة الجمعية، وتعتز بها وبتمظهراتها علی صعيد الملبس والمأكل والمشرب والفعاليات المختلفة، وهذه العادات والتقاليد الشعبية تمثل هوية الشعب الاجتماعية والثقافية، وذلك لرمزيتها وارتباطها بالبلد،
وإذا ما تحدثنا عن العادات والتقاليد الشعبية في شهر رمضان ، سنجد مجموعة من هذه التقاليد أو الطقوس الرمضانية الشعبية،وكسائر اغلب العادات والمواريث الاجتماعية تكون مصادرها في الأصل متعددة،فمنها ما يكون مصدرها دينيا ، ومنها ما يكون مصدرها ظاهرة اجتماعية حدثت في زمن من الأزمان ثم تناقلتها الأجيال .
🍀 أولا: نتحدث عن ظاهرتي: ( الماجينا والقرقيعان) وظاهرة ( الفانوس ) التي ترافق شهر رمضان المبارك، ففي العراق ودول الخليج تظهر (الماجينا) ويرجّح أنها تعود الى أصل تأريخي ديني يرتبط بولادة الإمام الحسن ( عليه السلام) فقد ابتهج الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله) بولادته،وأخذ الناس يباشرونه بالتهنئة والتبريك في 15 رمضان / عام 3هـ، ومنها أصبحت عادةً سنوية أن يُحتفل بهذا التأريخ، ومع مرور السنين صارت ظاهرة شعبية اجتماعية،تسمى في العراق (الماجينا) نسبة الى( ما اجينا) اي لولاه لم نأت!
أو نسبة إلى الكلمة التركية( باجي) وتعني الأخت الكبرى،اشارة الى سيدة المنزل،فيتجمع الأطفال ويطرقون أبواب الجيران،فيعطونهم الهدايا والحلويات.
🍀 وفي البلدان المجاورة تسمى بـ( القرقيعان) نسبة الى ( قرة العين) وهي اكثر تعلقا بولادة الحسن ( ع) إذ ترتبط بقوله تعالى:((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ...)) أو تنسب الى ( قرع الابواب)، إذ يجتمع أطفال المحلة ويطرقون أبواب المنازل ، ويُعطون الحلوى والنقود، ومهما يكن أصل تسمية هذه الظاهرة وكيفيتها، فإنها وفي الأحوال كلها مظهرٌ شعبيٌّ وعادةٌ رمضانية دخلت إلی الموروث الشعبي واستقرت في ذاكرته الجمعية، كمَعلَم يبعث الفرح والسرور والبهجة في النفس.
🍀 ثانيا : أما ( الفانوس) في مصر فصار ظاهرة للاحتفاء بشهر رمضان،وأصل الظاهرة تاريخي متأت من حادثة دخول الخليفة الفاطمي( المعز بالله) لمصر في شهر رمضان ، فخرج الناس يحملون الفوانيس لينيروا له الطريق ومن حينها ارتبط الفانوس بشهر رمضان،وصارت( الفوانيس) ظاهرة شعبية تميز طقوس شهر رمضان ،ومن مصر انتقلت الى الدول العربية الأخرى .
وصولا الى عصرنا الراهن ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي وابتعاد الناس بكل فئاتهم العمرية عن الظواهر الشعبية والطقوس الجمعية المتوارثة عبر الأجيال ، بدأت ظاهرة ( الماجينا) تنحسر في العراق،ولاسيما بين الأجيال الأخيرة،فلو سألت أحدهم لأجابك بأنه لا يعرفها أو أجابك بشيء آخر بعيد عن أصل (الماجينا) الشعبي المتوارث!!
ومع انحسار هذه الظاهرة ،حلت محلها ( الفوانيس) الرمضانية التي تملأ الأسواق والمحال التجارية،وتزين الطرق العامة احتفاءً بشهر رمضان.
🍀 ثالثا: مدفع شهر رمضان(الطوب): تقليد رمضاني راسخ في ذاكرة العراقيين ولاسيما أهل بغداد،إذ كان الناس يعتلون المنازل بانتظار إطلاق المدفع معلنا عن موعد الإفطار، وكان المدفع يوضع في مكان مرتفع أو مميز كضفة نهر دجلة، وعلی الرغم من التطور التكنولوجي الذي ألغی دور المدفع إلا أنه بقي تقليدا محببا لدی الناس،فالكل ينتظر أن يضرب المدفع من علی شاشات الفضائيات، لترتفع الأيادي بالدعاء والتضرع الی الله تعالی بقبول الأعمال.
🍀 رابعا: المأكولات: تحتفي الأسر العراقية بشهر رمضان أيما احتفاء،وتعد للإفطار أطباقا عديدة وأصنافا مختلفة ولاسيما أن من عادة العراقيين التزاور وإرسال الأطباق الی الجيران والأصدقاء،بالشكل الذي يشيعُ روحَ المحبة الاجتماع،ومن الأطباق الملازمة لسفرة الإفطار الرمضاني(شوربة العدس) فهي طبق دائم الحضور علی مدار الشهر، فضلا عن طبق التمر واللبن الرائب ،فمهما كانت الأصناف المُعَدَّة للإفطار متنوعة ومتعددة، تبقی الشوربة ويبقی التمر واللبن حاضرين.
ـ الحلويات: لابد من وجود أنواع من الحلويات بعد الإفطار(المحلبي،الكاسترد،الزردة بالحليب، البقلاوة العراقية بأصنافها الشهية...)
ـ الرز والماش: يوزع العراقيون ولاسيما في بغداد والنجف وكربلاء أطباق (الرز بالماش مع اللبن) وذلك في اليوم العشرين من شهر رمضان ،أي في ذكری جرح الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهذا يرجع وكما يقول بعض الأطباء إلی تلك الحادثة، لأن الإمام كان لايستطيع المضغ نتيجة الإصابة في رأسه، وعلی هذا يحتاج إلی طعام يسهل أكله من غير مضغ،ومن هنا صار الناس يطهون في كل عام (الرز بالماش) ويوزعنه ،ويُعرف بينهم بعبارة(مشتهاة علي)أي أنه طبق طلبه الإمام علي.
ـ حلويات النصف من رمضان: وهي أيضا مرتبطة بولادة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، وكما ذكرت سابقا أن رسول الله الأعظم قد احتفی في يوم ولادته، وأخذ المسلمون يباركون له،ومن هنا توارثت الأجيال الاحتفاء بهذا اليوم وإقامة الولائم وتوزيع الحلويات علی الجيران والأصدقاء والأحبة، وفي الدول المجاورة يُسمی( القرقيعان) كما ذكرنا سابقا، فـ(الماجينا) في العراق طقس يرتبط بولادة الإمام الحسن (عليه السلام) إلا أنه يبدأ منذ بداية شهر رمضان ويستمر حتی نهايته،بينما (القريقان) وهو يرتبط بالمناسبة نفسها،إلا أنه يكون في يوم الخامس عشر من رمضان،يوم الاحتفاء.
🍀 خامسا:أبو السحور(المسحرچي): هكذا نسميه في العراق، الرجل الذي يتجول بين الأزقة ضاربا علی الطبل،مناديا الناس ومنبها لهم علی وقت السحور،(سحور ..سحور.. ياصايمين سحور) وعلی الرغم من التغيير الذي أحدثته التكنولوجيا،إذ لم يعد الناس ينامون مبكرا ويحتاجون الی (أبو السحور) لإيقاظهم،فمئات القنوات الفضائية، ومسلسلات وبرامج لايمكن إحصاؤها تجعل الناس مستيقظين حتی الفجر، ومع ذلك بقيت ظاهرة (أبو السحور) حاضرة الی الآن مع بعض التغييرات، والطريف أنه حين يمر أو يمرون،لأنهم أصبحوا أكثر من شخص
يخرج الأطفال من المنازل لمشاهدتهم،وأحيانا يركضون خلفهم مبتهجين.
🍀 سادسا: لعبة المحيبس: من الألعاب الشعبية، إذ يجتمع شباب المحلة وينقسمون الی فريقين، فيتم إخفاء (المحبس) في يد أحد اللاعبين ويحاول الفريق الآخر تخمين مكانه واكتشافه، ومؤخرا صارت اللعبة تُقام بين منطقتين أو أكثر ،وصار لهذه اللعبة مسابقاتٌ وفرقٌ علی مستوی مدن العراق، وصارت القنوات الفضائية تغطي أجواء هذه اللعبة،التي يتخللها أحيانا عرض موسيقي(الچالغي البغدادي) مع تقديم البقلاوة العراقية والمشروبات الباردة والساخنة.
🍀 سابعا: الركن الرمضاني:
بفضل وسائل التواصل الاجتماعي ونشاطها ، مؤخرا برزت صفحات تعرض الأعمال اليدوية واللوازم الخاصة بها وتبيعها، واغلب هذه الصفحات تعود للنساء، فهي مصدر رزق مدرّ لهن،وباب للعمل لايتطلب منهن استئجار محال تجارية مكلفة، هذه الصفحات وما تقدمه من أعمال يدوية متنوعة( رسم على الزجاج، تزيين الطاولات، أدوات منزلية تحمل اسم الشهر او مدفع الافطار، شموع مزينة، لوحات رمضانية...الخ) أدت الى ظهور ما يسمى بـ( الركن الرمضاني) وانتشاره، فتزدهر المنازل ولاسيما البغدادية بالركن الرمضاني ،الذي يشتمل على مجموعة من اللوازم الرمضانية مع الحلوى وأباريق الشاي وغيرها من الأشياء التي تعكس ذوق المراة العراقية،وتبين حبها لبيتها وعائلتها،وحرصها على توفير الأجواء الأسرية الرمضانية الجميلة.
وفي كل الأحوال تبقى( الماجينا والفوانيس ،والركن الرمضاني) ظواهر شعبية فلكلورية، تضفي الفرح والسرور على النفس، وتعكس الابتهاج بالشهر الكريم، وتوفر الأجواء المناسبة للأسرة من أجل تمييز هذا الشهر الفضيل عن غيره، وتترك أثرا ايجابيا في نفوس الأجيال الحالية.
https://telegram.me/buratha