د.أمل محمد الأسدي ||
أمثالنا الشعبية خلاصة للخبرات في أغلبها، واختزال للمواقف الحية، تفرض سلطتها علی المتلقي عبر الأزمنة المختلفة،ولكل مثل حكاية وحدث، ويتداول العراقيون مثلا شائعا بينهم وهو(يفت المرارة) أو (گاعد بالحارة ويفت المرارة) قصته غير معلومة، لكنه ظل حاضرا في خطاباتهم حين يواجهون بعض المواقف غير المتوقعة من أصحابها.
(يفت المرارة)سرحت مع هذا المثل وأنا جنب صديقتي في المستشفی، وجهها مصفر والعرق يتصبب منه،أمسكت بيدها فشعرت برعشتها، ولحظت أن حرارتها قد ارتفعت مرة أخری!!
فتحت عينيها وتحدثت بدمع صامتٍ، وشهة خرساء!!
علی أثر ذلك عاد الألم من جديد وهرعت الی الطبيب أطلب حضوره الفوري،لأن وجهها المصفر،وشفتها المزرقة علامات اخافتني كثيرا!
زرقها الطبيب حقنة مسكنة، وقال لي:لا تخافي ،هذه أعراض نوبة المرارة،بسبب حصی المرارة!!
وبقيت بجنبها أتابع حزنها المنبعث، وأفج طياته السميكة!! وأتساءل ما علاقة المرارة بالجانب النفسي؟
لماذا حين فتحت عينيها بكت والتاعت ثم بدأت نوبة المرارة؟!
بقيت أبحث عن إجابة، فوجدت أن الأطباء والباحثين وبعد دراسات ومتابعات علمية، لم يتوصلوا الی تفسير علمي حاسم يؤكد ارتباط أمراض المرارة بالحال النفسية، لكنهم وجدوا بعض الصفات المشتركة بين المصابين ومن ذلك: الدقة في العمل،المسؤولية العالية،الإخلاص في المشاعر،خدمة الآخرين،نكران الذات، الرحمة والعطف تجاه الآخر، تجنب الضعف ومقاومته،الميل إلی تحقيق الأفضل،الصمت وعدم التشكي من الظلم والحرمان من الحقوق، وغيرها من الظواهر المبهمة التفسير التي أسهمت في إصابتهم بأمراض المرارة كما توصلت إليه هذه الدراسات.
مازلت أقرأ حتی قاطعتني صديقتي بضغطها علی كفي بقوة!! تضغط ودموعها تجتاز المحطات بلا فواصل!!
قلت لها مابكِ؟
قالت: أتفتت،أشعر أني أتفتت من الداخل
قلتُ:ألف سلامة، هوني عليك وأخبريني
قالت: من أصعب المواقف علی الإنسان أن يكون مخيرا بين حبه وكرامته!! فيفضل الثانية ويدوس علی قلبه!!
أمس استعرت معطفا قاسيا، أسود اللحظات،كي أواجه من أحب!! فاضطررت أن أُسمعه ما لا أشعر به، وبخلاف ما ينطق به قلبي!!
كانت تتحدث وكفها يستمر بالضغط علی كفي، يستمر وهي تحاول إخفاء رعشته، تتحدث إليّ والخيبة تمضغها أمامي،واللاقدرة تمضغني أمامها!!
قلتُ لها: انتبهي لصحتك وحسب،لا أحد يستحق
قالت: المشكلة أننا نعاتب بعضهم ونحن نعلم أنهم يدركون مافعلوه تجاهنا! لكن اعتزازنا بهم جعلنا نخلق هذا العتاب كي نحافظ عليهم!!
فلا مبرر لمن يقضي يوما كاملا(24ساعة) ولايجد الوقت للتواصل أو الاعتذار أو معالجة الأمر!!
أو نجده يتحدث في دقائق متبقية في قعر اليوم!
هنا...لابد من استدعاء التجاهل النائم في مدن الروح الأنيقة! لابد أن نتجاهل من يزهد في نعمة الحب!!
ولا علاج لذلك سوی التجاهل،فهو الترياق المجرب!!
قلتُ لها : وكفی به قصاصا عادلا!
قالت: لا أدري لماذا تعرضت لنوبة الألم هذه بعد ماجری؟ ما علاقة المرارة بمن يفت مرارتي؟!!
ضحكتُ ضحكة حزينة علی تلك التلقائية،تعلم أنه (يفت مرارتها) وتتساءل عن علاقة ماجری بينهما بنوبة المرارة!!
النفس الإنسانية عجيبة، صدق رب العزة حين قال:قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه!! كيف يكفر بنعمة الحب؟
كيف يزهد فيها؟
كيف يكفر بنعمة الصدق؟
كيف يتجرد من الذوق والالتزام؟
لماذا يظن بعضهم أن هذه التفاصيل ليس لها وزن عند الخالق؟ ألم يمر عليهم قوله تعالی:((...مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) فهذه التفاصيل تكون أشد وأثقل علی الإنسان ،فإن تجرح الآخر و لاتلتزم معه في كلمة أو موعد،ولاتنزله منزلته التي يستحقها، أو أن تكون ساهيا عن التواصل معه رغم علمك بحبه إليك!
فهذه أمور ثقيلة،تحطم أمان الإنسان،وتعيق ترابطه مع محيطه،وتزيد من الفوضی وتقطع سبيل المعروف!
كفانا الله وإياكم (فت المرارة) وأدعوكم جميعا حين تصلون الی هذا السطر أن تفكروا وتراجعوا سلوككهم،فربما يكون هناك شخص يتلوی من الألم بسببكم وأنتم عنه في غفلة،والله ليس بغافل عنه!
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha