د. نعمه العبادي ||
يعد اكتشاف واستخدام وسائل الاتصالات السلكية واللاسكية في الحياة العامة منذ أكثر من قرنين أحد أهم المعالم المهمة في الحضارة الحديثة، وربما يقارب في أهميته الآثار العظيمة التي حققها اكتشاف الطباعة والمطابع التي سهلت انتشار المعرفة وتعلمها، وقد مثلت وسائل الاتصال صياغة جديدة للنظرة تجاه الجغرافية، فهذا الربط الذي لا يقوم بالدرجة الأساس على التواصل والوصل الطبيعي العابر من خلال امتدادات الجغرافية الطبيعية وانما يقوم على اساس وصل اثيري يتحرك في الفضاء ويرسم صورة الجغرافية من حيث مفهوم البعد والقرب بحسبه، كما انه، أوجد صورة جديدة لحركة الرسالة الاتصالية، أعتمدت على الصوت والكتابة حتى بلغت مرحلة الصوت والصورة.
نقلات نوعية هائلة تخطتها مراحل تطور الاتصال، فبعد ان كانت حركة الرسالة (شعاعية)، لا يمكن للمتحدث ان يتكلم ويسمع في آن واحد، صار الأمر طبيعياً في اجيال الاتصالات اللاحقة، لينتهي بمفهوم الدائرة التي تربط عدد غير منتهي من المتصلين في مكالمة واحدة يستطيع جميعهم التفاعل المباشر كما لو أنهم حاضرون في جغرافية واحدة.
أسست الاتصالات بوصفها بديلاً أو رديفاً للقاءات المباشرة نظاماً جديداً من العيش والعمل والعلاقات، وبلغت آثارها حتى إلى مستوى إعادة صياغة رسائل المشاعر والعاطفة بشكل الجديد الواصل عبر وسائل الاتصال، كما انها دخلت على خط الأمن سواء في حقل المهددات او المحصنات.
(خارج نطاق الشبكة) وصف لغير المتاح عبر الاتصالات، وهو كناية لتعبير بلغة أخرى عن البعيد او الغائب ولو كانت تفصلنا عنه عدة أمتار على الجغرافية الطبيعية، يقابله (القريب)، وهو المتاح عبر الاتصال، ويزداد الاحساس بالقرب كلما كانت صيغ الاتصال متاحة بأشكالها الحديثة وأعني حضور الصور والصوت من خلال المكالمات الفديوية التي يجري الحديث عن تطويرها إلى امكانية تحسس بعض الصور الحسية والشعور بها وكأنك تلمسها من قرب من خلال ادوات الاتصال الحديثة وهي أقصى البعد.
في الوقت الذي يمكن وصف الاتصالات بعامل دمج ووصل للمسافات المتباعدة في الطبيعة، يصدق عليها انها عامل تفريق وتقطيع لأوصال الحياة عبر طرحها كبديل للوصل الحسي، ولم تكن المواصلات آخر معاول تقطيع الوصل الحسي المباشر، بل أن مجمل معالم الحضارة الحديثة القائمة على الفلسفة الفردية تتجه نحو هذا التباعد الذي ختمته كورونا في تكريس مفهوم (التباعد =السلامة)، وهي صيغة لا أظن ان العالم سيتغلب عليها، ويعيد انتظامه الى حالته الطبيعية في المنظور القريب.
تميزت المملكة المتحدة ولندن على وجه الخصوص بمجموعة معالم شكلتها أجزاء مهمة من هويتها الفارقة مثل ساعة بيغبن وسيارات التاكسي السوداء وصناديق الهاتف العمومي الحمراء.
تم انتاج أول كشك للهاتف العمومي من قبل مؤسسة البريد في بريطانيا عام ١٩٢٠ ثم فاز تصميم المهندس جيلز جيلبرت عام ١٩٢٤ لتصبح صناديق الهاتف بشكلها الاحمر المشهور والذي يعلوه التاج البريطاني، وكان طلاء هذا الصندوق بلون (الكشمش الاحمر) وهو لون مميز يسهل الاستدلال من خلاله، وظلت هذه الصناديق كأيقونات مميزة لمعالم المدن في المملكة وخصوصا في لندن.
ومع تطور وسائل الاتصال وظهور اجيال مختلفة من الهواتف، بقيت الصناديق الحمراء محل اهتمام ومحافظة من قبل بلديات المدن بوصفها إرثا مدنيا مهما، ومؤخرا قامت البلدية بإيجار البعض منها لذوي الدخول البسيطة لتحويلها الى مكتبات صغيرة او اي استخدامات عامة تحافظ على بقائها في الشوارع كمعلم مميز للمدينة، في مقابل هذه الصورة شهدت مدننا وفي مقدمتها العاصمة بغداد في عقود خلت ظهور صناديق الهاتف العمومي الرصاصية وابرزها الهواتف العمومية في منطقة العلاوي التي كانت تكتظ بزحام الجنود ايام الحرب العراقية- الايرانية في ثمانينات القرن الماضي، وقد توسعت شبكات الهواتف الثابتة بشكل كبير حتى وصلت لمناطق نائية، ومما يؤسف له اننا فقدنا هذه الخدمة المهمة والمميزة لصالح شركات النقال التي تنهش بنا منذ سنوات فضلا عن ضياع الصناديق الرصاصية والكثير من المعالم التي تناظرها كصور مميزة للمدن وشوارعها.
وعلى الرغم من المعطيات المهمة التي حققها الهاتف النقال من حيث سهولة وسعة استعماله فضلا ضمانه للخصوصية في جوانب مختلفة، وحجم الخدمات الداعمة المتاحة عبره إلا ان مكانة الهواتف الثابتة تبقى على اهميتها خصوصا داخل المنازل والمؤسسات الحكومية، فمن غير المنطقي ان تعتمد معظم الاتصالات الرسمية الحكومية عبر الهاتف المحمول الخاص للاشخاص والذي يفقدها الطابع الرسمي فضلا عن المحاباة في موضوع اجابة الاتصالات بحسب مزاج الاشخاص، وتضيع في ظله سلسلة من الف…
https://telegram.me/buratha