✍ د. عطور الموسوي||
اعتاد بعض العراقيين اتخاذ الأول من نيسان يوما للكذب من أجل التسلية.. فكان بعضهم يكذب على بعض في مقالب تحت مسمى كذبة نيسان غالبا ما ينتهي المقلب بضحكات وينتهي الأمر، ومنذ أن استلم صدام الحكم تردد الكثير ممن يتداول الكذب والنكتة من فعلها خوفا من بطش سلطته التي لا ترحم فرب نكتة منها تقع في ممنوعات صدام العديدة والتي اتسعت بمرور سنوات حكمه .. ولن أنسى يوم الثلاثاء الأول من نيسان عام 1980عندما أعلن تلفزيون العراق عن نجاة طارق يوحنا عزيز نائب رئيس الوزراء آنذاك من محاولة لاغتياله أدت الى إصابته بجروح وأدت الى قتل وجرح عدد من طلبة الجامعة المستنصرية.. للوهلة الأولى كنا نظن أنها كذبة نيسان، ربما أرادت الحكومة أن تحاكي الشعب في شهر احتفالاتها (السعيدة) حيث السابع منه ميلاد حزبهم المشؤوم (حزب البعث العربي الاشتراكي) والبعيد عن قيم العروبة كلها حتى تلك التي تحلى بها أهل الجاهلية .. وفي الثامن والعشرين منه ميلاد صدام بن (العز والترف) في محاولة لتبييض تاريخه الأسود وطفولته التي نشأها وهو بين أزواج أمه الأربعة.
في نشرة الأخبار المسائية أظهر التلفزيون صورا لشاب عشريني بزي الجامعة مخضب بدمائه، والمعلّق يشير اليه بأنه المجرم العميل سمير مير غلام الذي قام بالتفجير وتسبب بقتل زملائه الطلبة!!.. وفي نفس النشرة الإخبارية خبرا مصورا ينقل مهرجان حضره صدام في مدينة الصويرة، وكان واضحا أن صدام كان يريد أن يبعد نفسه عن الحادث بالحضور في المدينة التي ترعرع فيها الزعيم عبد الكريم قاسم في إشارة رمزية أنه وريث محبة الناس لذلك الرجل .
بينما حدثنا أحد معارفنا من أساتذة الجامعة عن حقيقة ما جرى: كنا يومها في اجتماع مجلس الكلية لتعديل المناهج العتيقة دون المساس بالتوجيهات المركزية للوزارة وكنا في أوج انفعالنا.. كيف نعدل مناهجا أطرها الأساسية خاطئة تصدر من جهلة تداولوا على كرسي الوزارة يوجههم ذلك الطاغية الذي لا يعي معنى للخطط العلمية أو النهوض بها.. وخلال الجدل المتصاعد بين الأساتذة والنبرة العالية للمناقشات سمعنا فجأة ضجة غير طبيعة قادمة من الممرات ومن السلالم القريبة كما لو كانت آلاف الأقدام تطأ الأرض، فخرجنا نستطلع الخبر. . قالوا: إن تفجيرات قد حدثت أمام البوابة الرئيسية للجامعة، والغريب أننا لم نسمع وربما بسبب حرارة الجدال الدائر، أو لأنه ليس انفجارا وإنما قنبلة صغيرة .. وقالوا : تم اخراج الطلبة من القاعات على وجه السرعة لئلا تكون قاعات المحاضرات ملغومة !!. كان هناك هلعا حقيقيا، والطالبات يصرخن ويبكين كما لو قد جرى فعلا تفجير قاعات المحاضرات، كان الرعب قد وصل لدى بعض الطالبات الى أقصاه وأصبح الكثير منهن في حالة هستيرية شديدة .
بعد فترة وصلت مجموعات عسكرية بكامل السلاح والمعدات والخوذ الفولاذية وهي تهرول بكراديس منتظمة وكأنها في ساحات القتال مما زاد الطالبات رعبا وقد ظهر ذلك من خلال الصراخ والعويل، كان هنالك ارتباك عام وظهر ذلك لأن تلك المجاميع العسكرية لا تعرف ما يجب عليها عمله دخلوا القاعات مهرولين وخرجوا منها مهرولين واستمروا يهرولون في ممرات الجامعة .
اتت المعلومات تم التاكد من عدم وجود متفجرات في القاعات لذلك فان على الأساتذة التوجه اليها ومباشرة محاضراتهم بشكل اعتيادي، في نفس الوقت انتشر الطلاب البعثيون بين الطلبة لحثهم على الدخول الى قاعات المحاضرات .. توجهت الى القاعة التي فيها محاضرتي في تلك الساعة ولكن كان من الصعب تهدئة الطلبة فقد كانوا منفعلين ومستثارين ولاسيما وان اغلب طلبتنا كانوا من الإناث اللواتي كن في وضع يرثى له، بعد فترة قصيرة وجهت عمادة الكلية بأن على الجميع المغادرة الى بيوتهم.
نزلت وجميع من كان معي من الأساتذة والطلبة الى ساحات وحدائق الجامعة والأخبار تأتي سراعاً.. قالوا: إن طارق عزيز كان في زيارة للجامعة وإن أحد الطلبة القى على موكبه قنبلة يدوية أثناء دخوله الجامعة، وانه قد أصيب بجروح طفيفة..
.. لم يمر اليوم التالي للحادث على خير حيث شهد تصعيدا آخرا يصب في ذات المضمون حين قام طلبة الجامعة المستنصرية بتشييع زملائهم هما هم طالبة اسمها فريال وطالب آخر، ووجه اتحاد الطلبة وضابط أمن الجامعة الأساتذة والطلبة المشاركة بالتشييع، لم أشارك حينها لوضوح تفاصيل الخطة المراد تنفيذها -الكلام للدكتور الذي روى لنا الحدث- :سمعنا أن موكب التشييع قد تم ضربه بقنابل يدوية في طريقه الى باب المعظم أمام مدارس إيرانية قديمة وفارغة ومتروكة منذ زمن طويل.. وقيل أنه قد ذهب عددا آخرا من الضحايا.. وكأن من الواضح أنه سيناريو معد سلفاً من قبل المخابرات العراقية وعلى أعلى مستوى وبإشراف شخصي من صدام ومن يدعمه أقليميا ودوليا .. والغريب ان اجهزة الإعلام الحكومية لم تشر بعد ذلك لا من قريب او من بعيد الى الفاعل وماذا تم بشأنه ؟؟
في اليوم الثالث للحادث حضر صدام شخصيا الى الجامعة ووقف خطيبا في الساحة القريبة من البوابة الشرقية للجامعة وكان يحيط به مجموعة من أفراد المخابرات والطلبة البعثيين، وهدد – وسط التصفيق والهتافات – بأنه سوف يثأر لكل قطرة دم أريقت على أرض الجامعة، وأعلن في خطابه الشهير ونصه :" البارحة، سالت دماء زكية لشباب ونساء في المستنصرية، الفاعل عميل يدعى سمير مير غلام هو وأسياده ظنوا أنهم حققوا شيئا كبيرا.. نقول لهم ولكل قوى الامبريالية الأجنبية ألي تفكر تتغلب على الثورة دعهم يحاولون .. الشعب العراقي هو جبل قوي لن تهزه كل قنابلهم. والله.. والله.. والله.. وبحق كل ذرة في تراب الرافدين الدماء الطاهرة التي سالت في المستنصرية لن تذهب سدى".. وأسرع صدام في نهاية خطابة لاتهام حزب الدعوة بتنفيذ ذلك الهجوم، وتوعد إيران بالرد الحاسم !!. ثم غادر على عجل .
تأكدنا منذ ذلك الحين بأن الموضوع كله ليس اكثر من مسرحية أخرجها واشرف عليها صدام وربما كان المقصود فعلاً هو قتل طارق عزيز وإلقاء اللوم على إيران كذريعة لإعلان حرب القادسية، ولربما من ضمن الأسباب التي أثارت غيظ صدام المصاب بجنون العظمة ما كان يفعله طارق عزيز وهو يحاكي طريقة صدام بمسك السيجار والتي تضفي عليه مظهرا من مظاهر العظمة الفارغة، ولعل اختياره للبوابة الشرقية للجامعة تعبير رمزي على أنه حامي البوابة الشرقية للوطن العربي وطالما ردد هذا الوصف على حربه وجيشه المجبر على إطاعته دون أي قناعة بهدف هذه الحرب التي استنزفت الأرواح والموارد دون جدوى.
كانت هذه الحادثة بداية مشؤومة على العراقيين فبعد يومين وفي الخامس من نيسان هو أعتقل السيد محمد باقر الصدر وأخته آمنة الصدر فكانت حادثة المستنصرية ذر الرماد في العيون وإشغالٌ للشعب العراقي عن ما يجري في النجف وفي دهاليز الأمن العامة بحق مرجع كبير ونبراس فكري للبشرية جمعاء وليس للمسلمين فحسب.
أعقبها عمليات تهجير واسعة لمواطنين وعوائل سكنت العراق منذ مئات السنين أبا عن جد، قيل أنهم من التبعية الإيرانية كما تصاعدت حدة الخطاب الإعلامي المضاد لطهران الى أن نشبت الحرب بعد أشهر معدودة في ايلول 1980 .
https://telegram.me/buratha