د. نعمه العبادي ||
مرت المدن بتحولات تاريخية وهندسية وثقافية كبيرة حتى استقر شكلها النهائي من حيث (المضمون المدني) على الصورة التي جسدتها مدن ما بعد الثورة الفرنسية.
لم تكن المدن الجديدة قرى وارياف كبيرة، بل هي حالة مختلفة تتجاوز حدود اختلاف نوع البناء وسعة الشوارع وعدد السكان، فلكل منهما مرجعيته وقيمه ومساره المختلف.
تقوم القرى والارياف على (التشابه والتقارب، ووحدة الصلة والتناصر عبر رابطة العرق والدم في معظم الاحيان)، ويتمايز الناس فيها ب (كثرة الابناء والاخوان والعصبة، ومظاهر القوة والقدرة، واستقطاب المقربين في مساحة مكثفة، والضيافة والاحتفاء، والمحدودية والانغلاق، والاستنصار لقيم محددة)، وتؤدي القرى والارياف وظيفة المحافظة على النوع، والتوارث الأمين للخصوصيات الجينية والثقافية، والأبقاء على المقربين في مساحة متقاربة، وتنمية روح الشجاعة والكرم، والسماح للزعامة الموروثة بالامتداد لاجيال جديدة، فيما تقوم المدن على ركائز وتؤدي وظائف مختلفة تماماً عن ما سبق، فالمدن تقوم على (التنوع والاختلاف، وحفظ الخصوصية، والحدود المتضامنة للحريات، وتجسيد المعارف الى طريقة عيش وممارسة، والانفتاح والاختلاط، والقرابة المكانية والوظيفية، والاستنصار بالقانون وادواته، والاهتمام الاكبر بالذات، وقبول المختلف، وغلبة الروح المادية والنفعية، والسبق الزمني للسكن)، وتؤدي وظائف من نوع آخر، فهي (تضمن للافراد حماية وحصانة دون الحاجة الى العصبة والجماعة، وتسمح بممارسة أوسع للحريات، وتتيح فرص للتطور المعرفي والثقافي والنمو الاقتصادي والتجاري، وتمكن الافراد من الاستفادة الأفضل بفرص الحياة، وتنتج اجيالاً متصاهرة من تنوع متباعد، وتقدم وسائل اكثر يسراً للعيش براحة واستقرار، وتساوي مسافات الافراد من السلطة بقدر التزامهم بالقانون).
ومع ان الفوارق بمجملها تنحاز الى صالح المدن مقابل القرى والارياف إلا ان هذا لا يمنع من وجود تحديات ومساوئ في المدن غير موجود في القرى مثل الاغتراب والوحدة، والانانية والنفعية، وتطور الجريمة، ومحدودية مرجعيات الضبط، والهوية الفضفاضة.
بعد توحيد الولايات الثلاثة الكبرى عبر مشروع الدولة العراقية الجديدة عام ١٩٢١، تسارع نمو المدن من حيث سعتها وعددها وحجم السكان فيها، وهكذا اصبح العراق (١٨) محافظة والمطلبات متزايدة باستحداث محافظات جديدة، وقد كان لكل مدينة قصتها في النمو والتطور إلا ان معظم المدن الرئيسة التي هي مراكز المحافظات شهدت هجرات متعددة من اريافها وقراها او من مدن اخرى سواء كانت هذه الهجرات جماعية كما حصل في بغداد او على شكل مجموعات صغيرة وافراد، ومع تلك الهجرات وعدم اكتمال عناصر المدينة الحقيقية التي تمت الاشارة إليها في معظم المدن العراقية إلا ان سمة من المدنية كانت تعم معظم المدن العراقية لجهة شكلها، وطريقة العيش فيها، ونوع الروابط التي تربط افرادها، ومنظومات القيم التي يتم التعامل بها، والمزاج الثقافي العام.
منذ عقود تتراجع المدن الى صورة ما قبل- قروية، فهي لم تستبدل خصائصها ووظائفها بخصائص ووظائف القرية، بل هناك هجين جديد من صورة مختلفة مع ظهور ملحوظ للقروية فيها، حتى اصبح الناس يتحدثون عن مساحة البيوت التي تقل عن خمسين متراً مربعاً، وتعدها في مقدمة تفضيلاتها.
عادة هناك ثلاثة مسارات رئيسة يتنافس فيها سكان المدن، الاول، هو مسار التعليم واكتساب المعارف، حيث يتبارى الافراد في الحصول على مستويات تعليمية جديدة واستكمال مراحل دراستهم للانخراط في وظائف مدنية قائمة على اساس المستوى الدراسي، والثاني، التسابق في الابداع الفني والادبي والنضوج الثقافي والمعرفي، وفيه يبرز الشعراء والكتاب والمثقفون والعاملون في مجال الفن والرياضة والصحافة، والثالث، وهو مضمار النشاطات الاقتصادية ذات الطابع المدني، حيث يتبارى فيه بعض ممن لم يرغب بالوظيفة، او لم يحصل على فرص تعليم جيدة او ينحدر من اسرة ذات نشاط تجاري، وفي المدن يتفاخر الناس بحجم حدائق بيوتهم على حساب صالات الضيوف، وتنوع مطبخهم ولذة طعامه، وتعليم نسائهم وتحضرها، ونظافة هندامهم وفهمهم للاتكيت، وبنظرة فاحصة موضوعية فإن مسارات التنافس والتفاخر تكاد تختفي تماما من مدننا، فمعظم سكان المدن منشغلون بالحصول على فرص للقرب من السلطة واهلها للحصول على فرص للتوظيف والكسب التي اصبحت وقفاً على المقربين من السلطة، كما انهم مهتمون بأسباب القوة والمكنة والتناصر على اساس القيم القروية او عبر التنظيمات السياسية، وتحضر السطوة القبلية بكل مفرداتها بقوة في شوارع المدينة حتى في المناطق التي ليس لسكانها انحداراً عشائرياً واضحاً.
لم يقف خراب المدينة عند هذا الحد، بل يتنافس عليه طرفان آخران، هما التنظيمات السياسية والحزبية والتي معظمها لم يتكون من ثقافة الدولة الحديثة، ولم تكن المدينة احد اجندتها، كما انها تخضع لزعامات توارثية اقرب بالتوارث القبلي، والمنافس الآخر يمثله العاملون في الدين، ولا اعني هنا المتدينين الذين يحملون قيم الدين والايمان سلوكاً وثقافة، بل الذين يتخذون الدين وظيفة ومهنة لكسب الاعتبارات والمكانة والقوة والثروة في عملية تسخير سيء للدين، فهولاء لا يمكن لخطهم ان ينمو في ظل مجتمع مدني متعلم ومتنور، يقوم على اساس الفضيلة واحترام الخصوصية، ولهذا يشتغل هذا الخط بكل قوة لتحطيم ما بقي من المدينة.
اننا امام محنة مستحكمة تخنق مدننا بقوة، وتكاد تجهز على ما بقي من انفاسها، وان العمل على استعادة المدينة لن يكون عبر تبليط الشوارع وبناء المولات والمدارس والجامعات الاهلية، بل مم خلال البحث الجاد عن اسباب تراجع المدينة والعمل على استعادتها، وهي مهمة عملاقة لكنها ممكنة.
https://telegram.me/buratha