د. نعمه العبادي ||
"يا ترى.. هل يمكن الحديث عن قواعد في العشق!!"
أنا السومري
يمكن القول دون مبالغة، ان اصعب واعقد التحديات في حياة الانسان تكمن في (فكرة الحدود)، ويتعقد التعاطي مع هذه الفكرة عند الانتقال من عالم الماديات الى (عالم المعنى)، فيتضاعف الامر من حيث (الاتفاق على دقة التحديد في التسوير) و (المساحة المتاحة للتصرف خارج تلك الحدود).
يعد (التعريف التام) غاية فلسفية عليا، فهو يجمع كل الافراد ويشملهم في بيانه ويمنع الأغيار من الدخول في سوره، ومع انها فكرة بسيطة لكنها صعبة التطبيق في الكثير من المفاهيم خصوصاً في ظل الاختلاف على حدودها.
تمثل المعركة الحقيقة لمرجعيات الضبط في حياة الافراد والمجتمعات حول (الحدود)، والتي تلخص بعبارة مكثفة موجزة ما (لنا وما ليس ليس، والمسموح وغير المسموح،...)، والتي تترتب على اثرها (التقييمات والاحكام)، ومنها تتفرع منظومة (الثواب والعقاب).
يطرح العشق في مفارقاته الغريبة، وصوره اللامتناهية، سؤالاً، قد يبدو سهلاً في الوهلة الأولى، لكنه يكشف عن تعقيد كبير عند الامعان فيه عميقاً، فهل العشق مرجعية حاكمة على الحدود بمختلف مسمياتها، بحيث ينبغي إعادة ترسيم الحدود في اطار حاكميته وسلطانه أم ان الحدود سابقة عليه، واذا كان الجواب بحسب الشق الأول، فما هي الاحكام القيمية التي يمكن ان تطلق على الصورة المنزاحة على مساحات توصف بأنها خارج الحدود، والى أي مدى يمكنه ان يدفع تلك الحدود ليوسع من مدياتها، وهل يمكن الحديث بمنطق مقولات الارادة عن العالم الذي يفرض خيارته قهراً، سواء كان القهر بقوة داخلية من صوت القلب او بأثر خارجي؟
تكشف احدى قصص العشق الغريبة مفارقة لا يمكن تخيلها إلا عبر دراما واسعة الخيال، وبطلة هذه القصة رئيسة الوزراء الاسرائيلة ذات الوجه القاسي، والتاريخ المشحون بالحوادث المثيرة.
" جولدا مائير" فتاة ولدت في أوكرانيا عام ١٨٨٩، قضت خمس سنوات من عمرها في مدينة كييف ثم ارتحلت عائلتها الى مدينة بينسك الروسة وقضت فيها ثلاثة سنوات، ثم هاجرت عائلتها الى امريكا عام ١٩٠٦ لتكمل تعليمها هناك، ثم تسافر برفقة زوجها موريس ميرسون الى حيفا في فلسطين المحتلة عام ١٩٢١ مع الطلائع اليهودية الأولى التي اسست للكيان الصهيوني الذي تم التبشير به عبر وعد بلفور عام ١٩١٧، وقد تخلت عن اسم عائلته لتختار اسم جولد مائير الذي يعني الاشتعال البراق بعد وفاة زوجها عام ١٩٥١ ، وقد انضمت الى منظمة العمل الصهيونية عام ١٩١٥، وعملت خلال وجودها بفلسطين قبل دخولها عالم السياسة بمهن مختلفة هناك منها التجارة وادارة الاعمال.
نشرت احداث هذا العشق المثير في مذكرات جولدا من خلال جريدة معاريف الاسرائيلية، ثم كتبت في رواية بعنوان (عشيق من فسلطين) نشرت عام ٢٠٠٤، وقد اثار الامر جدلاً واسعاً حوله.
"كنت أحاول أن أخفى علاقتى بألبير فرعون لأنه عربى فلسطيني، ولو اكتشفت المنظمة أمرنا لطردتني... إنه أمر ضد المبادئ الصهيونية"،
هكذا تعترف جولدا في أوراقها التى أعيد نشرها مرة أخرى من خلال بعض الصحف الإسرائيلية، لتفجر الضجة مرة أخرى حول قصة عشيقيها، ووفقا للقصة المنشورة فى جريدة معاريف الإسرائيلية فإن العلاقة بين جولدا وألبير فرعون بدأت عام ١٩٢٨، عندما كانت جولدا فى الثلاثين من عمرها، وقبيل اندماجها فى الحركة الصهيونية من خلال (الهستدروت) نقابة العمال اليهود، واستمرت العلاقة الجنسية المنتظمة خمس سنوات، ولم تنقطع إلا عندما سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بتكليف من الحركة الصهيونية لإبعادها عن الغرام الملتهب، وشهدت حارة اليهود فى القاهرة بعضا من فصول هذه القصة المثيرة.
وتشير الكتابات الإسرائيلية عن تلك القصة الغرامية المثيرة بين الأعداء إلى أن اللافت فيها أنها لم تكن مجرد علاقة جنسية عابرة بين جولدا وألبير، لكن عواطفها تجاه ألبير كانت صادقة، فقد زارت مائير ألبير فى منزله مرتين بعد افتراقهما بفترة طويلة، الأولى عام ١٩٣٧ لتبلغه بأن الوضع فى حيفا أصبح خطيرا، وأن مجموعات يهودية تحضر لطرد العرب من المدينة بعد قبول البريطانيين بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى فلسطينية، والزيارة الثانية كانت سنة ١٩٤٨ لتطلب منه البقاء فى حيفا بعد سقوط المدينة فى يد اليهود وهو ما يعني إخلاصها له ولو كان على حساب معتقداتها الصهيونية.
يقول فؤاد الخوري حفيد ألبير فرعون، الذى أمد كاتب قصة العشيق الفلسطيني بالعلومات المثيرة عن جده، إن ألبير فرعون عاش فى لبنان وهو ينحدر من عائلة فلسطينية، عشق الخيول وقرر الاستقرار فى بلده الأصلية حيفا، وفى إحدى المرات لبى دعوة من المندوب السياسي البريطاني للاحتفال بعيد ميلاد ملك بريطانيا، وفى الحفل تعرف ألبير على جولدا ثم تطورت العلاقة بينهما لتصبح قصة حب امتدت لعدة سنوات، وقد انتشرت الشائعات بعد ذلك لتؤكد أن ألبير له عشيقة يهودية فى فلسطين المحتلة تدعى جولدا.
وتصف الرواية جولدا بأنها فى ذلك الوقت من الثلاثينيات، كانت ذات شعر كثيف وطويل ويبرز وجهها، وكان جمالها أخاذا رغم ملامحها الحزينة، وجسدها قويا، تتركز إرادتها فى شفتيها الحادتين كالشفرة، وفى عينيها رغبة رهيبة فى افتراس العالم.. وكانت موسوسة من المشاعر المعادية للسياسة التى عرفتها فى روسيا أيام الشيوعية، أما ألبير فرعون فكان سليل عائلة لبنانية غنية وصاحب بنك، يعيش فى بيروت مع عائلته، مفضلا الخيل، وكان يتردد غالبا إلى حيفا، وأحيانا على القاهرة التى كانت زاخرة باليهود قبل ثورة يوليو ١٩٥٢.
وتكشف أوراق ألبير فرعون التى أمدها حفيده إلى سليم نصيب أنه بعد أسابيع من العزلة قضاها فى منزله فى حيفا، قرر تلبية دعوة المندوب السامي للاحتفال بعيد ميلاد ملك بريطانيا، وتعرف خلالها على جولدا، التى أثارها موقف لاحظه ألبير حين قام عمدة حيفا بتعريف (ديفيد لامزيه) بصديقه أسامة الحسيني، فاضطربت حالا لشبه بينه وبين صديق غالٍ على قلبها مات غرقا وهى فى الرابعة عشرة من عمرها، وفى الليلة التالية للحفل توجه ألبير إلى منزل جولدا بناء على دعوتها، فتطورت العلاقة مباشرة بينهما إلى قصة غرام سريّة دامت سنين. وتحولت لعلاقة جنسية منتظمة وسرية.
كان عمر ألبير فرعون وقتذاك خمسة وثلاثين عاما، ومن ضمن من اعتمد عليهم مؤلف رواية (عشيق من فلسطين) إحدى قريبات العاشق ألبير فرعون، التي تعيش حتى الآن فى القاهرة وتبلغ السابعة والسبعين من عمرها، وأكدت أن ألبير فرعون حكى لها عشرات المرات عن التفاصيل الدقيقة للعلاقة الغرامية التى جمعت بينه وبين جولدا مائير.
عاشت جولدا خمسة سنوات في قصة عشق عنيفة رافقتها علاقة جنسية منتظمة، كانت فيها منتمية (بحسب مذكراتها والرواية) إلى هذا العشق بحيث كانت بحسبها مستعدة للتنازل عن صهيونتها لصالحه.
كشفت الوقائع اللاحقة عن حقائق تكذب هذا الادعاء وتنفيه، فبعد ان تم ابعاد جولدا الى امريكا لانهاء قصة عشقها مع ألبير التي كانت تعيق الطموحات الصهيونية لمنظمة العمل الصهيونية، عادت مجدداً الى فلسطين بعد الاعلان الرسمي لاحتلالها عام ١٩٤٨، واصبحت عضو في الكنيست عام ١٩٤٩ ثم عملت في وزارة الخارجية كسفيرة في روسيا وكوزيرة للخارجية وقبلها وزيرة للعمل، ثم رئيسة الوزراء للفترة (١٩٦٩- ١٩٧٤)، والتي شهدت فيها حرب تشرين عام ١٩٧٣، وقد توفت عام ١٩٧٨، وقد قادت آلاف حمامات الدم تحت لوائها ومن ابرزها عمليات الاغتيالات المنظمة التي طالت مئات الفلسطنيين في بلدان مختلفة.
ان عرض هذه القصة المثيرة في غرابة اقدارها انتهى بي الى نتيجتين لا صلة بينهما ولكن كل منهما يفتح الباب لنقاش يمكن يمتد الى مساحات ابعد من القصة بمسافات كبيرة، الأولى، ان حاكمية العشق يمكنها ان تحاصر كل حدود المختلف وتسقطه تحت سنابك خيلها، والثانية، ان الصهيونية كمنظور سياسي تم تأطيره بلباس ديني عبر بروباغندا (الصهيونية تساوي اليهودية المخلصة)، استطاع انتاج صيغة دمج (نفسي وعقائدي) لخدمة مشروع اسرائيل تسقط تحت سنابك خيله حتى المشاعر ورغبات النفوس، حري بالذكر ان جولدا مائير تصنف ملحدة ديني
https://telegram.me/buratha