د.نعمه العبادي ||
"ماذا تعني الدموع عندما يفقد العالم كل المعاني“
منذ الممارسات الأولى، أستطاع الفكر أن يتحرر من أسر الواقع وحدوده الضيقة، ويتقدم في فرضياته خطوات إلى الامام، الأمر الذي مكن الانسانية من استشراف الكثير، والاستعداد لترتيب ما ينبغي فعله على اساس فروض قابلة الحدوث وإن بدت غريبة.
الروائي البرتغالي المميز خوسيه ساراماغو (١٩٢٢-٢٠١٠) الحائز على جائزة نوبل عام ١٩٩٨، يضعنا أمام صورة صاعقة تعيد ترسيم مشهدنا المنظور في إطار التلاعب في إعدادات ضوابط الواقع، فمرة يقول “في صباح اليوم التالي لم يمت أحد"، وهي العبارة الافتتاحية لروايته المميزة (انقطاع الموت)، إذ يفترض ان الموت قد توقف، وتراكم الناس بعضهم على بعض، واصبح المسنون معضلة كبرى، وشحت الموارد، وضاقت الارض بمن فيها، ليعيد تعريف الموت في ظل صياغة جديدة، تضعه في سياق تفسير مختلف من خلال النظر إليه من زاوية إنقطاعه، وأخرى، يجعل الصعقة أعظم وأشد من خلال مشهد درامي، يصاغ على أساس فرضية عبقرية، يعيد (فيها) تبصيرنا من خلاله، وعلى لسان زوجة الطبيب: " نحن لم نصاب بالعمى، بل كلنا عميان قبل ذلك، ولكننا لم نبصر عمانا".
في إشارة الوقوف تتسمر السيارة الأولى محلها مع أن ضوء الاشارة أخضر، وتتعالى الاصوات ومنبهات السيارات دون جدوى، وعند أول لحظة للوقوف على سبب العطل الفجائي، يصرخ السائق لمن فتح له الباب : "أنا أعمى.. لا أرى شيء.. أنا أغرق في بحر من الحليب.. كل شيء من حولي أبيض“، أنها اللحظة التي تلاعب فيها خوزيه بأعدادات واقعنا، ليحيلنا على صورة متخيلة عبر روايته (العمى)، وهي تتحدث عن وباء اسمه العمى، ينتشر بين الناس وينتقل بالعدوى.
يساعد شخص في الشارع المصاب الاول، وهو السائق الذي تعطل في الاشارة، ويوصله إلى بيته، ولكنه بعد ان يتأكد من دخوله الى البيت يسرق سيارته ويفر بها، ومن هنا، تبدأ الرواية، تفضح عالمنا عندما يطمئن الناس انهم ليسوا منظورين وخارج اطار المراقبة، وهكذا، ينتشر الوباء كالنار في الهشيم، فيصاب صاحبنا السارق به، وزوجة السائق الاول، والطبيب، وبعض مرضى العيادة، ثم خلق كثير، نعم، نحن امام (جائحة العمى)، وبنفس ايقاع دراما (كورونا)، يحذر الطبيب عبر الاتصال بالمسؤولين من خطر الداء ولكن لا احد يسمعه، ويكون العلاج عبر حجر الجميع في عنابر خاصة بعيداً عن العيون، والتعتيم على كل الاخبار، ودفن من يموت سراً، ثم بعد، ان يتوسع الداء، يطالب المصابون بالبقاء في بيوتهم وعدم الخروج منها خشية نقل العدوى.
لا يعتني سراماغو بتقديم تفسير لفرضياته، فكما انه لم يقول لماذا انقطع الموت، فكذلك لم يقول لماذا انتشر العمى، فهو غير معني بذلك، بل بتقديم صورة الواقع في ظل ذاك الانقطاع وهذا العمى، ولهذا لم يضع أسماءاً لابطال روايته، ولم يحدد هوية المتحدثين، بل ترك السياق يفصح عن المشاهد في حبكة درامية تضعنا أمام ألف سؤال وسؤال.
"ان الضمير الاخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى وينكره آخرون كثر أيضاً .. هو موجود وطالما كان موجوداً ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع حيث لم تكن الروح اكثر من فرضية مشوشة , فمع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي ايضا والتبادل الجيني انتهينا الى تلوين ضميرنا بحمرة الدم وبملوحة الدمع وكأن ذلك لم يكن كافيا، فحولنا اعيننا الى مرايا داخلية والنتيجة انها غالبا تظهر من دون ان تعكس ما كنا نحاول انكاره لفظياً"، هكذا يلخص صورة واقعنا، وهو يرسم مشاهد عالم ما بعد العمى، وطبيعة السلوك الجماعي الذي سنشهده في ظل الاحساس بعدم المراقبة، وفي ظل فذلكة ذكية له، يترك زوجة الطبيب متظاهرة بالعمى ولكنها ليست عمياء حقيقة، لتكون شاهدة على عالم سيتم استخدام القوة والابتزاز فيه، وسيتعدى كل من تصل يده على حقوق الآخرين لانهم لم يروه، وهكذا سيمارس الجنس والسرقة وكل الرذائل في ظل خيمة بيضاء تحجب العيون، وتحيل الافق الى حائط مسدود.
"الزمن هو الذي يحكم .. الزمن هو المقامر الآخر قبالتنا على الجانب الآخر من الطاولة وفي يده كل اوراق اللعب و علينا نحن ان نحزر الاوراق الرابحة في هذه الحياة"، تضعنا احكام زمن العمى في اطار معادلات شاقة وصعبة، وإذ يصعب علينا تكهن المواقف التي يمكن ان نكون عليها في ظل هذا الاختبار بعد ان كشفت لنا عنابر زمن العمى، ان الابصار الحقيقي لا يكون في العيون، بل في القلوب التي تظل متلمسة طريقها الواضح مهما كانت المنزلقات، ومهما صعبت الظروف، وان لها من داخلها ما يكفي لمنعها من الانخراط في لعبة الشر "عندما يبدأ شخص ما بتنازلات صغيرة فإن الحياة تففقد كل معناها في النهاية".
يضع عالم الجوائح البشرية أمام اختبارات صعبة وعسيرة، إذ ينزل منسوب قدرة التحمل إلى ادنى درجاته، وتصبح الفرص شحيحة، ويغدو الاشفاق حنيناً، وعندها، لا بد من الاشتغال على مسارات جديدة تنتمي الى مقولات هذا العالم المحاصر بالعمى مرة وبعدم الشم والذوق مرة وربما بغيرهما في مرات اخرى، بحيث نبقي قدرتنا على تحسس الوجع خارج ذواتنا، وهو ما يصلح ان يكون لاصقة الوجود بعد ان يكاد يتشطى من شدة ما يحيط به من الضغوط.
ختاماً "جميل اننا ما زلنا قادرين على البكاء .. فالدموع هي خلاصنا، إذ ان هناك اوقاتا ان لم نستطع البكاء فيها فسوف نموت".
https://telegram.me/buratha