د.أمل الأسدي ||
كانت جالسة وأمامها أوراقها وكتبها مفتحة، فهي في السنة البحثية الثانية في دراستها الماجستير في الأدب العربي، كان موضوعها مهما وجديدا ألا وهو ( الشعر والإعلام في العصر الأموي) ، أنهت الآن المبحث المتعلق بالفرزدق وحياته،فهو وجرير صوتان قويان ومؤثران في صناعة الرأي العام،إذ إن السلطة الأموية ركزت كثيرا علی الإعلام في بيئة العراق؛لأنها بيئة ثورية يصعب السيطرة عليها!! وما كان للسلطات حينها إلا أن تصنع فيها رأيا عاما داعما لها،يصرف أنظار الجماهير عن ظلم الأمويين وتعصبهم وجاهليتهم وفتكهم بأرواح الناس، ولاسيما في العراق، فلا تنتقي السلطة لهم الإ الولاة الظالمين القساة الذين يتفننون في تعذيب الناس وملاحقتهم والتضييق عليهم وحرمانهم.
أكملتْ مبحثا عن حياة الفرزدق، وثبّتت ما قاله الأصمعي عنه :تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة!!
و ثبتت ماقاله الجاحظ عنه:هذا الفرزدق كان مستهترا بالنساء وكان زير غوان وهو في ذلك ليس له بيت واحد في النسيب (الغزل) مذكور ،ومع حسده لجرير، وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا.
ولم تشعر بالساعات وهي تتسرب وتنسدل، انتصف الليل وانتصفت هي معه، نصف مستيقظ ونصف نائم!! وروحها تتأرجح بين العالمين، هناك ...قال لها : لاتنامي!!
إياكِ والنوم!!
قالت له: من أنت؟ ولماذا تحذرني من النوم؟
ـ كيف تنامين ويرتاح ضميرك، والله لأشكونك إلی إمامك!!
أصابتها رجفة وشعرت برهبة شديدة، نهضت من مكانها وقالت:
من أنت؟ ولماذا تشكوني إلی إمامي؟ وأيُّ إمام تقصد؟
ـ أقصد الإمام علي بن الحسين( زين العابدين)، والله لأشكونكِ إليه!!
أينصفني هو ويرد اعتباري ويحفظ مكانتي، وأنت تسيرين خلف أقوال العامة وتتركين قوله ورأيه فيّ؟؟
تتركين قول الإمام المعصوم وتمشين مع آراء نقاد السلطة وتشوهين صورتي معهم، تقدمينني للأجيال رجلا فاسقا مستهترا فاسدا سارقا ؟!!
- يا إلهي، هل أنت الفرزدق ؟
ـ نعم، أنا الفرزدق الذي أزعج صوتي حكام بني أمية!
تخيلي أن جريرا يقول فيهم:
يا آلَ مروان إن الله فضّلكم
فضلاً عظيمًا على مَنْ دينُه البِدَع
وحين طلب مني هشام بن عبد الملك أن أقول فيه مثل الذي قلته في الإمام السجاد، أجبته بالآتي:
هات جدا كجدّه وأبا كأبيه وأمّا كأمه حتى أقول فيكم مثلها، فحبسني بعسفان بين مكة والمدينة!!
فماذا عساهم يقولون عني بعد ذلك؟
لكني أعتب عليكم، كيف لا تخضعون ما تكتبونه للمنطق والعقل؟ وكيف تغفلون عن قول الإمام المعصوم؟
ـ يا شيخ مهلا، سأفقد عقلي، لاأصدق أنك تتحدث إليّ وواقف أمامي، والله، إن قلبي ذاب وتفتت مهجتي خجلا من ذكر إمامي وسيدي زين العابدين!
أخذت تبكي، والعبرة شلت صوتها،صارعت الزمن، تريد استثمار هذه اللحظات،قاومت الرهبة، وقالت له:
- أقسم عليك، أن تروي لي مشهد القصيدة!
بكی وتحسر ثم قال:
كانت الجموع غفيرة، وكلما أراد هشام بن عبد الملك أن يصل ويستلم الحجر دفعته الجموع، ففي الحج تتساوی الألوان وتغيب الملامح، وتزول الحواجز!!
فما كان لحاشيته إلا أن يضعوا له منبرا وطافوا به!!
وفي خضم هذا المشهد،جاء الرجل الرباني، تتقدمه الهيبة،وتحيط به هالات الوحي النورانية،وثمة عطر فريد فاح وملأ المكان، فلما وصل الی الحجر الأسود تنحی الناس عنه وفسحوا له المجال!!
فسأل شامي عنه، من هذا؟ فتظاهر هشام بعدم معرفته!!
فأغاظني ذلك وأنكرته، وأحسست أن عاصفة رافضة تدفعني للرد، فقلت : لكني أعرفه!
فقال هشام وهو يستمر في مشهده التمثيلي وتظاهره بعدم معرفته: من هو يا أبا فراس؟
فصرت أنشد وأنشد وأحس أن جسدي خفيف جدا وكأني أرتفع علی سحابة، و لا أری أمامي إلا السموات والنور:
ياسَـائِلِي: أَيْنَ حَـلَّ الجُـودُ وَالكَـرَمُ
عِنْـدِي بَـيَـانٌ إذَا طُـلاَّبُـهُ قَـدِمُـوا
هَذَا الذي تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ
وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِـلُّ وَالحَـرَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانُ رَاحَتِهِ
رُكْنَ الحَطِيْمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً، وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ
فَمَا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِيْنَ يَبْتَسِمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ
بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ قَدْ خُتِمُوا
ثم انهار بالبكاء وانهارت هي أيضا، قالت له: أرجوك، تحدث لي عن موقف السجاد بعدها!
قال لها وهو يختنق بعبرته:
حين سجنني هشام بعث لي الإمام السجاد هدية، اثني عشر ألف درهم مع قوله: اعذرنا يا أبا فراس،لو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به !
فأرجعت المبلغ ومعه رسالة:يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ولرسوله!
فردها الإمامُ إليّ قائلا : بحقي عليك لما قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك وشكرك، و نحن أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده!
فقبلتها وأنا كلي فخر وزهو ورحت أنشد في الحبس،هاجيا هشام بن عبد الملك:
أَيَحْبِسُنِي بَيْنَ المَدِيْنَةِ وَالَّتِي
إِلَيْهَا قُلُوْبُ النَّاسِ يَهْوِي مُنِيْبُهَا
يُقَلِّبُ رَأْساً لَمْ يَكُنْ رَأْسَ سَيِّدٍ
وَعَيْنَيْنِ حَوْلاَوَيْنِ بَادٍ عُيُوْبُهَا
أوبعد كل هذا تظلمونني يا بنيتي؟ سأشكو إلی الإمام ظلامتي!
فكف عباءته واستدار ذاهبا وهي مازالت تذكِّره بقول الجارية إلی الإمام السجاد حين أوقعت عليه الإبريق وشجت جبهته:
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ...
فأكمل الفرزدق قائلا: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
استيقظت والذهول يعصف بها، أمسكت المبحث وهي ترتعش وتبكي فمزقته وقالت: لن أظلم شاعرا جاهد في محبة محمد وآل محمد!
لن أظلم شاعرا أنصفه الإمام!!
https://telegram.me/buratha