د. أمل الأسدي ||
( عباس) كان شابا في عزِّ ثورته العشرينية، ثورته ألانت له الحديد، كلُّ الآمال الزهرية تناديه رغم صعوبة الحياة وشحة أنهارها، يقولون أن يده معجزةٌ لمهارته الفريدة في تصليح الشاحنات والمركبات الكبيرة،يقصده الناس من كل مكان، فحلوله ناجعة دوما، والنجاح هذا متأت من حبه لعمله فضلا عن مهارته، هكذا كانت حياته، مزارع من زعفران الأمل، لكنّ الدنيا تصرُّ علی طبعها ولاتغيره، لابد أن تلفح وجوهنا بقسوتها!!
هذا اليوم كان طويلا... شوارع بلا شفاه!! وشفاه بلا طريق!! حادث مروع أثناء عمله يطوي ظهره، ويطوي رغبته في الحياة، الأطباء يقولون : سيعيش مشلولا، وأشعة الرنين المغناطيسي تحكي عن حبل الحياة المقطوع!! مستشفی الشهيد عدنان، نوافذها تعوي ، تعزف بلسان مشلول لحن العاجزين!!
ثلاث عمليات جراحية ولا فائدة، ولا لحظة شروق هاربة من طيات الظلام!!
ينتظرون العملية الرابعة،يسلمون تذاكرهم للمجهول ولايعلمون متی الوصول؟ ولايعلمون أين؟
السيدة الهادئة كليل ربيعي، تلك الصيدلانية صديقة أخته، قالت لهم: أجلوا العملية أسبوعا واحدا فقط،سآتيكم برشفةٍ باردة من ضريحه، وبالفعل، أجلوا العملية وقبل انتهاء الأسبوع، جاءت وبيدها قاروة صغيرة فيها ماء،هذا الماء له قدسية وأثر!!
شرب (عباس) الماء وهمس بدعواته، همس بصوت حزين فاقد الأمل!!
أدخلوه غرفة العمليات، أمه تستجدي الألوان!!
عباءتها أشد ظلاما من ليلة شتوية!!
ساعة كاملة ولم تنته العملية، عيون تترقب، وقلوب تجذف بلا أمنيات!!
خرج الطبيب، أعاد كلامه مثل كل مرة:الي علينا سوينا والباقي علی الله
عباس كان يستفيق من التخدير ويخرج منه بصعوبة، يصرخ ويصرخ متألما: علی كيفكم، الله يخليكم، علی كيفكم ما اتحمل الوجع!! ودموعه تجري وتجري !!
الآن عاد إلی وعيه تماما،فتح عينيه، سأل أمه بوجهٍ مبتسم :
ـ أين هم؟
ـ من هم يا بني؟
ـ الأطباء الأقزام
أية أقزام؟ يبدو أنك ما زلت تحت تأثير التخدير!
ـ أمي، أطباء أقزام كانوا يقفزون علی ظهري، أخبروني بأنهم مكلفون بهذه العملية!!
يتحركون ويقفزون ويشدون ويدعكون، ورجل طويل يقف عند رأسي، قال لي : لا تخف، أنا معك!!
ناديتني فأجبتك!
صمتت الأم وتفتّحت في داخلها أبواب الانتظار!!
لابد أن توصلها الی البر!!
بعد أسابيع (عباس )يحرِّك رجليه، ويمشي خطوات، وطلبة كلية الطب برفقة أستاذهم يشرح لهم عن هذه الحالة!!
وعباس مازال يحكي لهم قصة الماء، وقصة الأطباء الأقزام، وقصة الكف التي كانت تمسح جبينه!
فهذه الكف منذ أن جادت بروحها قديما، وهبها الله رصيدا أخصر الحكايات،يكتبنا قضيةً، ونكتبه قاضيا!!
يا أحبتي، هذا النص نفحة حقيقية من نفحات صاحب الميلاد،ليس من وحي الخيال!!
فالخيال يخجل من الوقوف أمام كفيه!!
فتزمَّلوا بالورد وولُّوا وجوهكم شطر فراته
https://telegram.me/buratha