محمد عبد الجبار الشبوط ||
وهذا (اي الحركة المكوكية بين الواقع والنص بتوسط ادوات الاجتهاد) ما فعله الفقهاء السابقون، او الكثير منهم، ممن لم يحصروا عقليتهم الفقهية وممارستهم الفقهية في دائرة النصوص الدينية وانما جمعوا بين استيعاب وفهم النص الديني، والتمكن من ادوات الاجتهاد المختلفة كوسيط، ووعي الواقع المعاش المعاصر لهم. ولهذا يعمد الكثير من الفقهاء الى فتح باب جديد في رسائلهم العملية بعنوان "المسائل المستحدثة" وهي "هي الوقائع الجديدة التي لم يسبق أن بحثها الفقهاء القدامى ولم تدوّن في مصنفاتهم، وقد تناولها الفقهاء المُحْدثُون أما فتوى مُجَرَّدَةً أو فتوى مع الدليل."
يلاحظ على سبيل المثال ان فصل "مستحدثات المسائل" في كتاب "منهاج الصالحين" الجزء الاول، وهو الرسالة العملية للسيد السيستاني، استوعب ٤٣ صفحة تناولت ٢٤ موضوعا في مختلف المجالات.
وهذا ما نجده واضحا، على سبيل المثال، عند الشيخ محمد حسين النائيني (١٨٥٦-١٩٣٦) في كتابه المعروف "تنبيه الامة وتنزيه الملة" في عام ١٩٠٩ على بعض الاقوال، حيث واجهت العقلية الفقهية الاسلامية قضايا الدولة الحديثة والدستور والمجالس البرلمانية والانتخابات وغير ذلك. وعمل عن موقف الشريعة الاسلامية منها، قبولا او رفضا.
او كما فعل الفقيه اية الله العظمى الشيخ مرتضى الحائري اليزدي (١٣٣٤-١٤٠٦ هجري) في كتابه "ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة" وهو يتحدث عن التكييف الفقهي للحكومات القائمة في "عصرنا الراهن"، حيث قال:
"فاما الحكومة المعمولة في عصرنا الراهن: فإنْ حصلت بتوكيل جميع ذوي الحقوق حتى الصغار والمجانين باذن وليهم فداخلة في باب الوكالة والظاهر حينئذ عدم الإشكال في تصرفات المتصدين واعانتها. لكن يجب ان يكون التوكيل في ضمن عقد لازم ..." ( ج ١، ص ٢٨٠)
ولابد ان القاريء التفت الى عبارة "في عصرنا الراهن" التي تشير الى مواكبة الفقيه لتطورات عصره. وهذا ما يضمن استمرار حركة التجديد في الاجتهاد الفقهي، فالمواكبة شرط التجديد، ولكل عصر حداثته.
ومن المحتمل ان السيستاني قام بالامرين معا، ذلك لان امتلك ناصية الامرين، اعني الاجتهاد الفقهي في الشريعة والمواكبة الواعية لتطورات وتحولات عصره.
في كتاب "الاجتهاد والتقليد والاحتياط" وهو تقريرات السيد السيستاني بقلم السيد محمد علي الرباني المطبوع بنسخته الاولى في علام ١٤٣٥، مع ان السيستاني يقول "بثبوت ولاية الفقيه في الامور الحسبية وهي كثيرة"، الا انه ادخل مفهوم "الانتخاب" في المسألة، فاضاف: " وليست الولاية ثابتة لكل فقيه بل للفقيه المنتخب من قبل الناس". وفي التفصيل قال:"فلا بد وان يكون المتصدي لهذه الامور ممثلا للمسلمين"، "وحيث ان القسط والعدل العام مما لا يمكن تحقيقه بمباشرة عموم المسلمين فلابد وان يكون ذلك بالتسبيب من المسلمين بانتخابهم شخصا او اشخاصا للتصدي لهذه الامور". (ص ١٢٨-١٢٩).
او كما فعل وهو يبحث في احد الاحكام الشرعية على اساس قاعدة الالزام (سنة ١٤٠٩ هجرية)، حيث طرح فكرة قانون الاحترام المتبادل ومفادها انه "اذا كان بناء المجتمع المتشكّل من الاديان والمذاهب المختلفة على التعايش السلمي فان ذلك يستدعي احترام كل من الاطراف قانون الطرف الاخر". "وذلك لان عدم الاحترام ينافي التعايش السلمي المشترك الذي هو اساس الذمة والهدنة والتعاون". ( كتاب "قاعدة الالزام"، تقرير السيد محمد علي الرباني، المطبوع سنة ١٤٣٦، ص ٧٢-٧٣). ويلاحظ هذه النقطة ان السيد السيستاني عالج المسألة الفقهية في ضوء طبيعة المجتمع وهو مجتمع تعددي قائم على التعايش السلمي بين مكوناته المختلفة، ولم يتعامل مع النص الديني بمعزل عن الواقع الاجتماعي.
وهذا دليل على اهمية الاجتهاد كالية تواكب الشريعة من خلالها متغيرات الزمان والمكان:
"وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة 122)
https://telegram.me/buratha