د.نعمه العبادي||
يحايث واقع الحياة الذي يسير وفق سننه وقوانيه الصارمة، هامش ندي يحاول كسر التحجر والتخشب في مساحة الواقع، ويدفع حواجز الحدود إلى الامام قليلاً، ليزيد من فسحة النور، ويوسع من مساحة التنفس، وهذا الهامش الندي المعبر عنه بالأمل والحلم لولاه لأصبحت الحياة خانقة حد الموت، وهو سنة من سننها، وليس مخالفاً لها، وقديماً قال الشاعر:
أعلل نفسي بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..
يتسع ويضيق هذا الهامش بقدر وعي الانسان لموقعه في الحياة، وحدود قناعته بها وعنها، وتتضارب وجهات النظر في تحديد المشروع من غيره فيما يتصل بحجم ونوع الآمال التي يسمح لنا أن نعيشها ونرتجيها ونتعلق بها.
يبدع الادب الروسي في مقارباته الاجتماعية، وهو يتلمس الزوايا المظلمة في الحياة خلف الابواب الموصدة والارواح المنكسرة، وفي هذا السياق، كتب الروائي المبدع نيقولاي غوغول روايته (المعطف)، ومما ينقل عن أهمية هذه الرواية وراويها، ان عملاق الادب الروسي والعالمي دستوفسكي قال عنها: (كلنا خرجنا من معطف غوغول)..
تدور احداث الرواية القصيرة عن بطلها (أكاكي أكاكيفيتش)، والذي يعمل موظفاً بسيطاً ينسخ الاوراق في دائرته، لكنه كان يحب عمله بشكل غريب ومخلص له ومتفاني فيه، وكثيرا ما قيل، وكأنه خلق لهذا العمل، وعلى الرغم من أنه لم يزاحم أحداً في منصب أو ترقية إلا أنه كان محلاً لسخرية الآخرين وتنمرهم، رغم من مسالمته ووداعته، وقد كان يشعر في اعماقه، انه يخلد ويحافظ على نحو من الوجود المهم عبر ممارسته للنسخ.
في بطرس بيرغ المدينة القاسية في بردها يتخرق معطف أكاكي ولم يعد ممكنناً إصلاحه، واصبح لا يحمي من البرد، تتلخص احلام أكاكي المعدم بمعطف بسيط، حيث يدخل في دوامة تقتير شديدة على نفسه وحاجاته الضرورية، وهو يشيد في روحه وقلبه حلم الحصول على معطف جديد (انه حدود امنيته)، وبعد، ان اخذ الادخار والجمع والبرد والقسوة مأخذها منه، وحين ابتسم له القدر، وهو يحتفي بمعطفه الجديد، الذي كان يساوي عنده بمثابة تتويجه ملكاً للعالم، وحالما دخل دائرته مبتهجاً به وسط سخرية من نوع جديد، وفي ظروف غامضة سرق معطفه.
سرق معطف أكاكي الذي لم يكن يعني لسارقه شيئاً، ولم يفهم قيمته رجل الشرطة الذي وبخ أكاكي عندما طلب منه أن يبحث عنه، لانه في نظره لا قيمة له، ولم يدري أحد، أن أكاكي مات يوم سرق معطفه.
هكذا تموت وتسحق احلام الفقراء في ضجيج الحياة المتعسف دون ان يشعر بها من يسمون انفسهم بالكبار، ودونما يستشعرون حجم الالم والوجع الذي يرافق هذا الفقدان، كما ان هؤلاء يقابلون تلك الاحلام الصغيرة بالسخرية والتندر، لان نفوسهم الشرهة تعودت على عدم القناعة، وجاز لهم ان تكون رغباتهم من الحجم الكبير ومتاحة وميسرة في اغلب الاحيان.
لقد عبر غوغول بطريقة دراماتيكية مفجعة عن موت أكاكي الذي قال عنه: مات رجل لا يعني لاحد شيئاً، ولم يحزن عليه احد، ولم يدري احد بحلمه الذي ضاع، ولا بحياته المشحونة بالوجع..
في كل يوم في ظل عالمنا المتنمر المجرد من الرحمة يسرق ألف ألف معطف من ألف ألف أكاكي دون ان يعير أحد أي اعتبار لهذه الاحلام التي يساوي فقدانها الموت في عيون اصحابها، وهكذا يغادر الحياة الكثير من امثال أكاكي دون ان تذرف لاجلهم دمعة واحدة.
https://telegram.me/buratha