ضحى الخالدي ||
كنت في الصف الثالث المتوسط, وكان شتاءً قارس البرودة, قاسي الملامح, وكان بيتنا القديم يهتز لمجرد مرور صواريخ كروز في أجواء مدينتنا الصغيرة. كان صوت مرورها مميزاً, له أزيز خافت مرعب تهتز له شبابيكنا.
كان يرعبني أكثر من أصوات الدفاعات الجوية والقنابل والصواريخ المنهمرة من الطائرات, والمنفجرة كشلالات الجحيم في أطراف مدينتنا, رغم أن هذه الانفجارات كان يُخيّل لي أنها تقتلع أساسات بيتنا وتأخذه نحو السماء, ثم تلقي به نحو الأرض.
كنت أخاطب خالتي:
(يخيفني هذا الأزيز أكثر من صوت الطائرات والانفجارات)
فتسخر مني بمرارة:
(وما الفرق؟ الموت واحد. وهل ستشعرين بشيء مختلف حين يتقطع جسدك بصاروخ طائرة, أو بصاروخ أرض- أرض؟
فأجيبها بذلك الأمل والتفاؤل والثقة بالآخر الى درجة العمى, وهي الأشياء المُرّة التي رافقتني حتى حين:
(نعم, لأن الطيار انسان, وقد تصيبه الرأفة فلا يسقط الصاروخ علينا, أو يخطئ فيرميه في مكان آخر يخلو من الناس, لكن صاروخ أرض- أرض أعمى! ينطلق من هناك موجهاً وإذا ما رآنا فلن يعتذر, ولن يغيّر وجهته!!)
فتجيبني خالتي بمرارة:
(لو كان الانسان يشعر ويعتذر لَشَعَر صدام, أو اعتذر!)
تقنين في صرف النفط والغاز والخبز, الجوع كافر والبرد أكفر, والظلم أكفر الجميع.
لا كهرباء, ولا هواتف أرضية, ولا ماء......الماء!
من حسن حظ مدينتنا أنها تحتضن الفرات بذراعيها؛ كنا نذهب نحو شط الفرات شباباً وشابات وعجائز, مع براميلنا البلاستيكية وأواني الطهو والملابس المتسخة؛ لنملأ البراميل من ضفة النهر العريض, السريع, والخطير... في منظر يعزّ على الغيور.
لم تكن طبيعة حيِّنا تسمح بحفر الآبار في منازلنا كما فعلت الأحياء الأخرى في ضواحي المدينة, وهي آبار مالحة بطبيعة الحال. كان حيُّنا واحداً من أقدم أحياء مركز المدينة, قريباً نسبياً من النهر, وبيوتنا عتيقة وتفتقر الى الحدائق, ومنطقتنا منخفضة وتعاني من المياه الجوفية (النزيز) وحفر أي بئر في أي منزل يعني بالوعةً داخليةً تقذف بمياه المجاري داخل الدار!! كان يكفينا تهالك المجاري في منطقتنا وما نعانيه من إهمال البلدية, وفيضان شارعنا صيفاً شتاءً, بالمطر, ودونه..
كانت أصعب اللحظات حين كنا نغسل الأواني على الضفة, أنا وخالتي, وتأتي أسراب الطائرات لتقصف المواقع العسكرية القريبة, أو تستهدف محطة الكهرباء الحرارية, أو الجسور, أو, أو, أو...
لم تكن هذه حياتي, لم أترعرع في الريف, ولم أعتد هذه الحياة, كان الخجل يأكلني وأنا أتعثر بعباءتي في طين الضفة, وأسقط على وجهي مع ما أحمل من أوانٍ زجاجية.
لم تكن كميات المياه التي نجلبها من النهر كافية لاستخدامات الشرب والغسيل والاستحمام المقنَّن, مما يضطرنا لذلك المشوار المَقيت الذي لم يبقِ لكبريائنا الغِرِّ من هيبة..
كان نباح الكلاب ليلاً إشارةً على بدء موجة القصف الجديدة واقتراب أسراب الطائرات, فبطبيعة الكلاب تستشعر ترددات الصوت فوق مستوى السمع البشري, وكانت تقنياتنا الدفاعية المنزلية ككل العراقيين, تعود الى زمن الحرب العالمية الثانية, نطفئ الفوانيس واللالة –اللمبة- وندخل الى غرفة جدتي التي لا تطل على الشارع أو الفناء الخلفي للبيت, بل تحيطها الصالة وغرفة أخرى, وممر داخلي.
كنا نتحلَّق حول المدفأة النفطية طلباً للدفء والأمان, نرتجف من البرد والخوف, جدي الثمانيني لا يتحرك من تحت لحافه الوثير على سريره الفاخر من شجر البلوط مستهزئاً بالموت: (جدو, ما الذي بقي من العمر؟ فلأمت في فراشي دافئاً؟ ما الفرق؟). كانت جدتي توصينا بالإحاطة بالمدفأة كي لا تبدو نارها للطيار, فيجيبها خالي متهكماً:
(نعم, وكأن الطيار سيهبط ويستدير وينظر من الشباك الى نار المدفأة, ويكتشف موقعنا الإستراتيجي! يا أمي إنهم يوجهون أسلحتهم بالليزر, وإذا أرادوا أن يفرغوا حمولتهم عشوائياً, فسيفرغونها في أي مكان يحلو لهم مظلماً كان, أو منيراً. فداءً لبولة الرئيس!!) متهكماً طبعاً
أما أنا فكنت أتفلسف بجهل, أو غباء, لست أدري:
(يفترض بنا أن نبتعد عن المدفأة لأنها نار, وإذا ضربَنا صاروخ سيحدث حريق!!)
فينظر لي خالي وخالتي بامتعاض, ويقولان:
(وهل إذا ضربك الصاروخ ستكون لنار المدفأة أي قيمة معتبرة في معادلات الانفجار والحرائق؟!)
لا أدري, هل كان تفكيراً طفولياً مني؟ أم براءةً؟ أم سذاجةً؟
وصل الأمر بالرجال شيباً وشباباً أن لا يعودوا الى منازلهم ليلاً, بل يمكثون في المقهى القريب, ويشّغلون المذياع بأعلى صوته لاستماع نشرة الأخبار على راديو مونت كارلو, ويهدر صوت فريدة الشوباشي وجورج قرداحي بآخر الخسائر, في هدوء الليل الكئيب. وكذلك كنا نفعل في منازلنا, نقنّن استخدام المذياع حسب نشرات الأخبار على إذاعات بغداد, طهران, مونت كارلو, لندن- BBC- حفاظاً على البطاريات الثمينة في زمن الخير, ويد الخير.
أكسبتني هذه الحرب 1991 خبرة متواضعة في استشراف نهاية حرب الغزو 2003, فمنها تعلمت أن استخدام قاذفات B52 الثقيلة البطيئة المنخفضة الطيران يعني تدمير كل دفاعات العراق الجوية, واقتراب الحرب من الحسم...
في حرب ليست حربنا......قد هُزِمنا.
يتبع
https://telegram.me/buratha