ضحى الخالدي ||
كان ضابطاً مهندساً في أشغال القوة الجوية العراقية برتبة عقيد, ومعه ضباط آخرون وعدد من الجنود محاصرون بلا إمدادات ولا أمل بالنجاة في الجهراء- الكويت...
أربعون يوماً من الحرب قضاها أولئك الضباط والجنود الى درجة البكاء من الجوع.. ليس الجوع تماماً بقدر ما هي الكرامة المهدورة أمام طبقة بيض وكيلو من الطماطم يجب أن يكفيهم لعدة أيام. لم يكونوا من أولئك الذين يقتحمون دكاكين البقالة, أو يسرقون المنازل التي هجرها أهلها.
بمرور الأيام وكرور الليالي, اشتدت وطأة القصف على مواقع القوات العراقية بدقة.. الطائرات تحلق أعلى من مديات أسلحة الدفاع الجوي وتستهدف فرائسها بشراهة, والاتصالات مقطوعة. من الممكن في أي لحظة أن تهاجمهم القلة القليلة الباقية من الكويتيين الذين لم يهربوا من الاحتلال الصدامي, والذين اختار بعضهم مقاومة هذا الوجود العسكري بطريقتهم الخاصة. كانوا يصطادون الضباط والجنود بطريقتهم الخاصة من خلال النساء اللواتي كنّ يغرين ضعاف النفوس بملاحقتهن الى شقق معينة يتم فيها اغتيالهم بمجرد إغلاق الباب!
من الممكن في أي لحظة أن يأتي دورهم لتستهدفهم طائرات التحالف الدولي المشاركة في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت وتدمير العراق.
أمر زملاءه وجنوده بالانسحاب, كان قراراً اتخذه وتحمل مسؤوليته إذ لاشيء يستحق الموت لأجله, لقد هُزِمَ النظام في حرب مدمرة من أجل قضية خاسرة. لعبةٌ حبكت بعناية دلالة أنه حين وطأت قدماه القاعدة العسكرية التي نُقِلَ اليها في الكويت وجدها حديثةً متطورةً مجهزةً بأحدث الأجهزة لا سيما الحواسيب المكتملة البرمجة والملقمة بمعلومات كاملة عن العراق, كان متفاجئاً أن من ضمن المعلومات التي وجدها في الحواسيب: نسبة الشيعة في العراق 60% من مجموع السكان!! كل شيء كان جاهزاً بما في ذلك الأعلام الأميركية الموضوعة على المكاتب!!
ركبوا السيارة, سارت بهم مسافةً, استقبلتهم فرقة الإعدام بمعاطف أفرادها السوداء وشواربهم الكثّة وغدّاراتهم المتطورة. خاطبوه باسمه وكأن ذاكرتهم تختزن سجلاً كاملاً لكل ضابط في الخطوط المتقدمة. كانت نبرتهم تشي بالمكر وكأنهم اعتادوا السخرية من فرائسهم: ها عقيد فلان؟ الى أين؟ على خير؟
وبسرعة بديهته أجاب: هناك أعطال في المنطقة الفلانية, وجاءتني الأوامر بالتوجه الى هناك مع زملائي من المهندسين والفنيين ضباطاً ومراتب لتنفيذ الواجب... كان في صدره ينتخي علياً..
فسح القتلة الطريق معتذرين: تفضل تفضل سيدي, كأن سداً جُعِلَ من بين أيديهم ومن خلفهم.
اضطرت المجموعة لتغيير مسارها –ولو مؤقتاً- باتجاه المنطقة التي زعم العقيد أن فيها مشاكل فنية, تريثوا قليلاً قبل التوجه نحو طريق البصرة..أثناء ذلك صدرت أوامر الانسحاب من بغداد, بدأت طلائع الجيش المهزوم بمغادرة الكويت..
كان انسحاباً مذلاً مهيناً..وصلت المجموعة المغادرة المطلاع.. المطلاع التي حين مرَّ بها العقيد عند نقله من قاعدة تموز الجوية في الحبانية الى الكويت خريف عام 1990, وجد فيها بقايا ركائز حديدية محفور عليها (الحدود العراقية).. المطلاع التي باعها عبد السلام عارف عام 1964!!
هناك حدثت المجزرة..هناك حدثت الفاجعة..حلّقت طيور جهنم فوق الأرتال العراقية المغادرة المنكسرة..
كانت عجلتهم تسير ليلاً مطفأة المصابيح, قُصِفَت العجلة أمامهم..قُصِفَت العجلة خلفهم.. كانت ليلةً جهنمية أضاءت عتمتها النيران التي أكلت أولادنا.. أولادنا الذين كانت ساحات الحرب الملعونة أمامهم, والمشانق خلفهم, وما بينهما فرق الإعدام.. ومجزرة المطلاع.
أمر العقيد سائق العجلة أن ينحرف بها عن الشارع العام نحو التراب, كان أمراً شاقّاً وسط ذلك الزحام من المركبات المتلاحقة, وركام تلك المحترقة. شيء ما في داخله همس له: أخرجوا, أمر من معه أن يرموا بأنفسهم من السيارة وهي تسير ببطء, ارتموا على الأرض المالحة التي ما كانت شفيقةً ولا أماً رؤوماً, نهضوا بسرعة فلا مجال للتثاقل, ركضوا متفرقين على غير هدى في ظلمةٍ لم يضئها سوى وهج النيران التي التهمت عجلتهم الفارغة بعد أن استُهدفت بصاروخ, كما استهدف الذين من قبلهم.
يتبع..
https://telegram.me/buratha