ضحى الخالدي ||
كان جندياً مكلَّفاً في منطقة النخيب يحكي لي عند عودته من الحرب عام 1991:
كانت الطائرات النفّاثة تحلِّق على ارتفاعات منخفضة جداً, وتقوم بألعابٍ بهلوانية. كانت المدافع الرشاشة للطائرات تطلق نيرانها بكثافة علينا, ونحن نركض ونركض هاربين هائمين على وجوهنا في الصحراء بعد أن دمّرت الصواريخ مواضعنا ودفاعاتنا الجوية المتهالكة قبل أن تطلق نيرانها باتجاه طيران العدو, والتي تعجز عن ذلك أساساً لتحليقه بمستويات أعلى من مدياتها, ولأن أجهزة الرصد (الرادار) التي دمّرت تماماً لم تكن لتتمكن من كشف طائرات الشبح التي كانت صواريخها أسرع من أنفاسنا اللاهثة ونحن نركض أهدافاً سهلةً لطيار أميركي يتلاعب بنا.. يحلق منخفضاً ويطلق المدافع الرشاشة قريباً منا, ولو أراد أن يصيبنا إصابةً دقيقةً لفعَل..
صدقيني, لا أبالغ إن أخبرتك أن خطوط الضحك على وجهه كانت باديةً من خلف قناع الأوكسجين الذي يرتديه الطيارون, وهو يلوِّح لنا بيديه: باي باي, بعد أن ضمن -على ما يبدو- عدم نجاتنا من برد الصحراء وجوعها وذئابها وتيهها إذا ما ولّينا هاربين بحيواتنا, إثر الوجبة الدسمة التي قدمها لنا من الصواريخ..
الى هذه الدرجة التي لا تصدَّق؛ كان قريباً..الى درجة أنه كان يسخر منا قبل أن يقتلنا..
كان الموت قريباً أيضاً..
صحراءُ مستويةُ على مدِّ البصر, تكتنفها تلالُ هنا وهناك..أرضٌ مكشوفةٌ ولا سلاح لدينا إلا رشاشتا كلاشينكوف لا تسمنان ولا تغنيان من جوع, ومسدس طارق9 عند الضابط, وكان برتبة ملازم؛ تخرَّج حديثاً من الكلية العسكرية, ومنذ أول ليلةٍ للحرب عند سماعه دوّي الانفجارات؛ بكى!
ركضنا في كل اتجاه, حلَّ الليل, رأيت بعض الروابي تلوح مع اقتراب العتمة, فرحت..اعتقدت أنها تلال سنلوذ بها, ونبيت ليلتنا عندها في الصحراء مفترشين الأرض, وملتحفين السماء.
أسندت ظهري منهكاً الى أحد هذه التلال, التصقت به علَّني أختفي من تلك الطيور الجائعة. لحظات وتزلزلت الأرض تحت قدمي, وأطبقت السماء على رأسي..طرتُ في الهواء الذي طوَّح بي على الرمال..نهضت متثاقلاً أنفض التراب عن بدني كأني دفينٌ بُعِثَ من قبره عند نفخة الصور. تحسست جسدي, تفحصت أطرافي بحثاً عن إصابةٍ, كنت سليماً لم أُصَب بشيء, لكن التل الذي ألجأت ظهري إليه بعد الله, كان رابيةً من عدة روابٍ تتربع على قمتها أبراج اتصالات تم استهدافها بالقنابل العنقودية!!
يتبع
https://telegram.me/buratha