محمد عبد الجبار الشبوط ||
سوف يزعل الكثيرون من الجملة التالية. لكن لابد من قولها اذا اردنا ان نصدق القول: المجتمع العراقي، وبخاصة المجتمع الشيعي، يعاني من التخلف بمختلف انواعه. والتخلف هو خلل حاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة بعناصره الخمسة. وهذا التخلف اكبر عقبة امام النهوض الحضاري للمجتمع، بل هو اكبر عقبة امام اقامة الدولة الحضارية الحديثة. والتخلف/الخلل الحاد هو السبب في كل الظواهر السلبية التي يعاني منها العراق من شمال سامراء الى جنوب الفاو على الاقل. وعلى رأس هذه الظواهر السلبية تدني انتاجية الفرد في اي مجال يوجد فيه.
والمجتمع العراقي من اقدم المجتمعات الاسلامية حيث بدأ بالظهور منذ عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب. فهو مجتمع اسلامي مخضرم. يؤثر فيه الدين ورجال الدين بدرجة كبيرة. لكنه في نفس الوقت مجتمع يعاني من التمزق الداخلي بين القيم القروية والمدينية، والقيم البدوية والحضرية، وبين هذه كلها والقيم الاسلامية. وبمرور الزمن تغلب التخلف على القيم الاسلامية، لكن دون ان يتخلى المجتمع عن الاسلام. فقام المجتمع بحل هذه التناقضات عن طريق "اسلمة التخلف" اي اضفاء مسحة اسلامية على الممارسات والافكار المتخلفة، فصار المجتمعُ يمارس عاداته المتخلفة باسم الدين. لكنها في الحقيقة عبارة عن عادات اجتماعية متخلفة، اما سابقة على الدين، او مستوردة من مجتمعات متخلفة، او نتاج الفهم المتخلف للدين. وليس هذا التخلف جديدا؛ فقد بدأ بالظهور في المجتمع العراقي منذ زمن بعيد قد يعود الى العصر العباسي الثاني، وتفاقم بعد الغزو البدوي المغولي.
الان: ثمة جدار سميك من التخلف يقف حائلا بين المجتمع وبين محاولات النهوض والتغيير. ولابد من هدم هذا الجدار.
ولأن جدار التخلف اضحى مرتبطا بالدين بدرجة كبيرة، فان المؤسسات الدينية والاحزاب الاسلامية تتحمل مسؤولية كبيرة في التصدي للتخلف وهدم جداره. ولم يتم انجاز هذه المهمة بالشكل الكافي حتى الان.
المؤسسة الدينية تعتمد مبدأ "مداراة الناس" ولهذا فهي ترى ضرورة التصدي للتخلف "ولكن ليس بطريقة ثورية تصدم الناس وتجعلهم يهربون من دين الله افواجا".
وليس مؤكدا ان مبدأ مداراة الناس في تخلفهم سوف ينفع في القضاء على التخلف، بل ربما يكون له اثر عكسي.
اما الاحزاب الاسلامية فقد انشغلت بالمعارضة السياسية اولا، ثم المناصب الحكومية تاليا، ولم تول مسألة مكافحة التخلف واسلمته الاهمية الكافية.
اخذت مظاهر اسلمة التخلف تزداد بسبب الحصار الثقافي الذي تعرض له العراق تحت حكم البعث المتخلف، الذي تصدى بضراوة لعلماء الدين والمثقفين المتنورين وعلى رأسهم الشهيدان الصدر الاول والصدر الثاني، وقوافل الشهداء التي ضمت اسماء بارزة مثل الشيخ عارف البصري، وحسين جلوخان ونوري طعمة وعبد الهادي السبيتي وعبد الصاحب الدخيل وغيرهم المئات.
واليوم، ورغم التحرر من نير الحكم البعثي المتخلف، فان ظواهر التخلف واسلمة التخلف مازالت تتفاقم، وتتسع، في وقت تتعاظم فيه حاجة المجتمع العراقي الى النهوض الحضاري ومعالجة الخلل الحاد في المركب الحضاري من اجل اصلاح مافسد من امور المجتمع والدولة في السياسة والاقتصاد والتربية وغيرها. وهذا ما يجعل من الضروري التصدي لمشكلة التخلف بصورة عامة، ومشكلة اسلمة التخلف بصورة خاصة. واذا كانت المهمة الاولى تقع على كاهل كل المثقفين والمتنورين في المجتمع، فان المهمة الثانية تقع على كاهل المؤسسة الدينية "الرسمية" بشكل خاص. فكما وقفت هذه المؤسسة بكل شجاعة في وجه الفساد، فان المصلحة العامة تنتظر منها ان تقف بنفس الدرجة العالية من الشجاعة والحسم بوجه اسلمة التخلف. فاسلام متحرر من التخلف افضل من تخلف متستر باسم الاسلام.
https://telegram.me/buratha