د. نعمه العبادي ||
على الرغم من الجذر اللغوي القديم لكلمة (نخب) والذي يعني أخذ من الشيء صفوته وأحسنه، ومنه جاءت كلمة الانتخاب، إلا أن الاستعمال المعرفي لكلمة النخبة، ظهر متأخراً في نهاية القرن التاسع عشر في حقل العلوم الاجتماعية، وقد أصل له أكثر من مفكر، مجتمعين على مشترك مفاده، ان النخبة جماعة قليلة، ذات خصائص مميزة، وقدرات مختلفة، تمكنهم من لعب دور يفوق مستوى الدور الذي يلعبه الاشخاص العاديون من عموم الجمهور، ويختلف المفكرون في الاسباب التي تكمن وراء قدرة النخبة للعب هذا الدور، وتنقسم الآراء في هذا المجال الى أربعة أقسام وهي الآتي:
- الاتجاه التنظيمي: وينطلق من قضية أساسية مفادها أن النخبة تملك مقاليد القوة بفضل قدراتها التنظيمية وتقديرها الدقيق لمصادر القوة في المجتمع.
- الاتجاه السيكولوجي: ويقدم هذا الاتجاه مقاربه مفادها، إن القائد أو الزعيم الذي يحصل على السلطة وتعوّد ممارستها يجد بعد ذلك صعوبة في النزول عنها، فيزداد إيمانه بنفسه، ويبالغ في عظمته، ثم يلجأ في النهاية إلى نسب التنظيم إليه، وربطه به، وإن الأقليات الحاكمة تسعى باستمرار إلى إيهام الجماهير بضرورة تحقيق الوحدة الداخلية والاستقرار حتى يمكن مواجهة الأخطار التي تهدد المجتمع، وطبقاً لهذه الأيديولوجية تنظر الأقلية الحاكمة إلى أي معارضة بوصفها عنصراً تخريبياً يفيد منه الأعداء، وقد تبني هذه الأقلية أسطورة الديمقراطية التي تجعل من القائد المنتخب انتخاباً ديمقراطياً تعبيراً دائماً عن إرادتها الجمعية.
- الاتجاه الاقتصادي: تحكّم النخبة في وسائل الإنتاج هو الذي يمنحها الوضع المسيطر في أي مجتمع، والطبقة الحاكمة هي الطبقة التي تحصل على أعلى الدخول في المجتمع.
- الاتجاه المؤسسي: يرى إن مكان الصفوة وبناءها يتحدد في ضوء البناء الاجتماعي الاقتصادي لمجتمع معين، والنخبة هي نتاج للطابع المؤسسي الذي يسيطر سيطرة كاملة على المجتمع الحديث، ومن ثم فإن القوة تميل إلى اتخاذ طابع مؤسسي عام، ويؤدي ذلك الموقف إلى ظهور منظمات تحتل أهمية محورية في المجتمع، وهذه المؤسسات تكوّن في مجموعها الأوضاع القيادية في البناء الاجتماعي.
تنطلق هذه المقاربات جميعها من قدرة النخبة في التاثير على المشهد العام وصياغة الاوضاع السياسية وما يتبعها بناء على منظورها وتوجهها، وهي في كل هذه الاسس والتفسيرات، لم تأخذ في حد النخبة أي محدد قيمي او اخلاقي، بل هي غير معينة بذلك مطلقاً، وفي ظل اقرارها بتلك الخصوصية، تعطي لتلك الجماعة (بناءاً على المنطق الذي تؤمن به) أحقية لعب دور مميز، بل ومهيمن في بعض التفسيرات، بغض النظر عن المسار العملي الذي تنتجه تلك النخبة.
في الاتجاه الآخر طرحت السماء منظوراً مختلفاً فيما يتعلق بفكرة النخبة والصفوة، ففي المسار العام، لم تستهدف خلق طبقات قرابية تراتبية على أساس القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى، بل جعلت المسافة متساوية أمام الجميع، وان فرصة القرب والبعد تتحدد بحسب الالتزام بمرادات الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الاطار تحدثت عن مواصفات ضرورية مقومها الاساس العدالة التي تعني الاستقامة الطوعية، كشرط لأداء ادوار اجتماعية تقتضيها ضرورات الحياة، فالنخبة هي نخبة صفات، وهذه الصفات متاحة للجميع بحسب امكانات الفطرة؛ كما، انها اخبرت عن نخبة صارت محلاً للقرب والرضا والكرامة بفضل إلتزامها، وانتهاجها مسار العدالة، وهذه النخبوية لم يكن دورها السيطرة والتأثير والاستئثار بالثروة والسلطة، بل على العكس من ذلك، كانت سبباً لتحمل اصحابها المزيد من العناء والاقصاء من خط السلطة والثروة الذي يرى في تلك النخبوية مهدداً له؛ وقد كان الصفوة الاخلاقية المصحح والضابط وخط المواجهة لمشروع الانحراف دون أن يدع احد منهم علويته القرابية كموجب لتوفقهم او تقدمهم على الآخرين، ومع ان هناك صورة أخرى، تمثلت بالنخبة المدعية التي ارادت ان تخلع على نفسها وصف الصفوة عبر تدرعها بجلباب الدين (زوراً) لتستحوذ به وعن طريقه على مقاليد السلطة والثروة، وحاولت التأصيل لمفهوم نخبوي جديد في الدين، يشاكل المفهوم الذي تحدثت عنه التفسيرات الاربعة سابقة الذكر إلا انها لم تستطع، ان تكتسب شرعية النخبوية القائمة على اساس الانضباط في خط العدالة والنزاهة، بل بقيت غير مشروعة وغاصبة لموقعها رغم الزيف العظيم الذي تم ممارسته لتغطية واقعها، واصبحت الالقاب الدينية التي تدعيها، فارغة من اي محتوى اخلاقي، بل، صار الانحراف مقترناً بتلك الأوصاف الدينية المنتحلة.
في تحدي بناء الدولة، يجري الحديث عن مجموعة صور تمثل نماذج مختلفة من القناعات فيما يتصل بالعلاقة بين النخبة وبناء الدولة، يمكن عرضها في الآتي:
١- النخبة مقدمة ضرورية للدولة، ووفقها، فأن النخبة المعنية بهذا الاشتراط، هي النخبة التي تم الحديث عنها في الجزء الاول من مقالنا، والمبحوثة في الحقل الاجتماعي، والتي تملك قدرة عالية على التواصل والتنظيم والاستجابة والتأثير، وفي ظل هذه الرؤية، لا يوجد اي ذكر للمحدد الاخلاقي، بل، ان رؤية الدولة بحسبها، غير معنية بهذا البعد.
٢- نفي النخبة الاخلاقية ضرورة لبناء الدولة: وهو الاتجاه الذي يرى، بأن الاتجاه البراغماتي الذي ينبغي ان تتأسس عليه الدولة، يقتضي ابعاد كل اشكال الهيمنة القيمية والاخلاقية، وهي عبارة مخففة عن نفي كل ما هو ديني.
٣- النخبة الاخلاقية ضرورة لقيام الدولة: وتقوم هذه الرؤية على الحديث عن كيان اخلاقي قيمي مثالي، لذلك، لا تعترف بمسميات الدولة في اشكالها التقليدية، بل تتعاطي معها بوصفها، صوراً لكيانات غاصبة لمشروع الدولة المثالي، وتختلف المقاربات في هذا الاتجاه في تحديد الصفوة الاخلاقية المعنية بقيام الدولة ونظرية الحكم التي تقوم على اساسها الشرعية وتحديد الطريق الامثل لتحقيق بناء الدولة.
٤- فصل المجالات مقدمة ضرورية لقيام الدولة، وفي هذه الرؤية يتم التفريق بين نخبتين، الاولى، وهي التي ينطبق عليها ما تم عرضه في البحث الاجتماعي، وهي المعنية بمشروع الدولة وتقويمه، والثانية المقومة بالمحدد القيمي، والتي يمكن السماح لها بممارسة ادوار فردية في جانب البناء التربوي للافراد بشرط ان يكون هذا الدور بعيدا عن مسار السلطة والثروة المعني بها القسم الاول من النخبة.
السوال الاهم والاخطر في هذا النص، هل يمكن للنخبة الاخلاقية ان تتبنى نموذج الدولة الواقعية بشكل يجعل وجودها منطقياً وممكناً، وفي ذات الوقت يكون للبعد القيمي والاخلاقي مكانته الاساس في كل تفاصيل الدولة ومجالاتها، وبناء عليه، تصبح النخبة المعنية بأدارة الدولة وشؤونها محكومة بشروط وضوابط النخبة الاخلاقية والقيمية في آن واحد؟
يمثل تحدي ما يعرضه هذا السؤال الصورة التي يجري حولها الحديث واسعاً في ظل التجربة العراقية القائمة، الأمر الذي يتطلب تقديم اجابات عميقة وواعية وعملية فيما يتصل بمستقبل العراق ونظامه السياسي.
https://telegram.me/buratha