ضحى الخالدي ||
اقترنت التعريفات المعاصرة للإرهاب بعمليات الاغتيال السياسي أواخر القرن التاسع عشر، وقُبيل الحرب العالمية الأولى؛ لتكون أولى إرهاصات الإرهاب بمفهومه العالمي المتداول، إلا أنّ تأريخ العراق شهد هذه الظاهرة عبر التأريخ من تعذيب أتباع الأنبياء، وحتى ممارسة أبشع أساليب القتل والتنكيل ضد أتباع أهل البيت عليهم السلام، وصولاً إلى الممارسات التعسفية للحكام العثمانيين.
نجد هذه الظاهرة موجودة في ممارسات الشيوعيين والبعثيين من قتل وسحل وتمثيل بالجثث أبان الانقلابات، أو تعذيب للمعتقلين كما في قصر النهاية.
وتبلورت هذه الظاهرة في أبشع صورها خلال سنوات الحكم البعثي لا سيما الصدامي منه؛ لترسم أكثر الصور قبحاً ودمامةً لامتهان الكرامة الإنسانية، والاستخفاف بقيمة الحياة البشرية لملايين العراقيين.
وكي نواكب التعريفات الحديثة والمعاصرة المتسالَم عليها دولياً للإرهاب؛ نلاحظ وراثة هذه الصورة الوحشية من قبل فئة سكانية كبيرة مارست دور المنتقم لزوال الكرسي من يد طائفة بعينها؛ لتتمظهر في سلوكيات عدوانية تجاه الدولة والشعب على حد سواء، واتخذت من القتل الطائفي هويةً لها على اختلاف المسميات: القاعدة، فيلق عمر، جيش الفاتحين، جيش محمد، داعش... تمظهرت هذه السلوكيات في أبسط أشكالها بتوفير الحاضنة لشذاذ الآفاق من كل حدب وصوب.
ما الذي يدفع الفرد للانخراط في التنظيمات الإرهابية؟ كيف يفكر؟ كيف يصبح انتحارياً؟ ما الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر في مساره الحياتي؟ هل للشخصية الإرهابية مميزات خاصة تطبعها بطابع خاص؟
تتميز التنظيمات الإرهابية باستشراء الأمية المقنَّعة بمعنى استكمال المراحل التعليمية المتقدمة، لكن دون أي تأثير لهذا المستوى التعليمي على القدرات الذهنية، والسلوكية؛ لمنعها من التطرف والانحراف على مستوى القيادات والحلقات الوسطية، زيادةً على انتشار واسع للأمية التقليدية في المجتمعات الحاضنة!.
يحرص الإرهابي على أن تكون معركته دينية آيديولوجية؛ كي يرضي غروره بأنه لا يقاتل من أجل مصالح دنيوية كالنفوذ والسلطة!.
إنَّ قيام الحروب على أساس الحق المطلق يمنحها الديمومة والمواصلة ويغذيها إلى درجة الثورة والقتل على أساس اختلاف وجهات النظر.
يفكر الإرهابي في البطولة الوهمية المرتدية رداء الدين، ويشعر باحتقار الآخر حتى لو كان من عناصر تنظيمه الإرهابي نفسه؛ وفي الوقت ذاته يندكّ بجماعته الإرهابية أكثر من اندكاكه في العقيدة الدينية التي يتوهم الدفاع عنها؛ وهنا تكمن الازدواجية الناجمة عن خلل نفسي واجتماعي لدى الشخصية الإرهابية التي يجد المختصون أنها غالباً ما تعاني من مشكلات، هي:
اضطراب في الشخصية والتفكير، سوء فهم الآخر، تفسير سلبي لدوافع الآخرين وتسقيطهم، تضخم الذات وجنون العظمة، اضطراب المزاج والقلق والتوتر، الاستهزاء بالقيم الاجتماعية، الخروج عن القوانين وامتلاك السوابق الجنائية، ممارسة العنف اللفظي والجسدي، تبرير الأفعال ومحاولة عقلنتها، الجمود الفكري.
كل هذه التراكمات جاءت من عوامل نفسية وبيئية تتمثل في الفراغ الثقافي والفكري والعاطفي، وضعف الوازع الديني، وعدم القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب.
وعوامل اقتصادية منها، البطالة، وعوامل سياسية منها العزلة السياسية والحاجة للأمان ووجود الأنظمة المستبدة؛ فأما أن يتربى بثقافتها، أو أن يثور عليها بطرقها الإجرامية نفسها، وأبشع من ذلك!.
كذلك عوامل التنشئة الاجتماعية من ظروف مجتمعية وتربوية؛ فوجود التعاطف الاجتماعي الكامن مع الفعل الإرهابي لا سيما الطائفي يساعد في دعم الإرهاب بشكل واعٍ، أو غير واعٍ، وهذا ما يدفع بعض المختصين إلى القول بأنّ شخصية الإرهابي لا تعاني من اعتلالات نفسية، لكنها تمارس ما تربت عليه من مفاهيم فكرية واجتماعية، أمّا من يعانون من اضطرابات نفسية فيُعزَلون ويُجنَّدون انتحاريين، من خلال تحويلهم إلى أدوات للقتل باسم الدين؛ بتعزيز الرغبة في الانتحار من خلال إلباس مشاعر الكراهية والخوف لباس الدين، وتعزيز مشاعر البطولة الوهمية، واحتقار الآخرين على أمل الحصول على حياة أفضل بعد الموت.
لذلك يُعَدُّ المجرمون المحرِّضون من أخطر القيادات الإرهابية؛ لأنهم يغذون الشبّان والشّابات سواءً بطريقة قاصدة، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بالفكر الإرهابي المسموم؛ مستخدمين الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة المنزوعة من سياقها في دعم أفكارهم الخطيرة عبر التفسيرات المغترضة، والفتاوى التكفيرية، بمعنى الاستيلاء على التراث العقائدي والفقهي والتأريخي، وتوظيفه في تبرير الإجرام والقتل، معتمدين على أئمة متطرفين من أمثال: ابن تيمية، وابن القيّم، وابن حزم، وابن عثيمين، وابن باز، والألباني، وابن كثير، والشعيبي, والطريفي، وابن الجوزي، ومحمد بن عبد الوهاب... وكتب مثيرة للجدل يتداولونها وتروج بينهم مثل: صحيح الجامع، وزاد المعاد لابن قيّم الجوزية -وهو غير كتاب زاد المعاد للمجلسي المعروف عند الشيعة الاثنى عشرية لكونه كتاباً للأدعية والزيارات- والمعارج، وحلية الأولياء، ومجموع الفتاوى وصيد الخاطر، وفتح الباري، والإنجاد في أبواب الجهاد، وإسعاد الأخبار في إحياء سنّة نحر الكفار، وإغاثة اللهفان، وإيضاحات في التحرير العقدي... إلخ!.
تكمن خطورة منصات التواصل الاجتماعي العامة والخاصة؛ في أنها أقصر وأسرع طرق تجنيد الجيل الثالث من الإرهاب المعروف بعنوان (إستراتيجية الذئاب المنفردة).
ويرفع إرهابيو اليوم شعارات شبيهة بل ومستنسَخَةً من شعارات وحجج الخوارج من قبيل: الحكم بما أنزل الله، والحكم بكفر المجتمع، وكفر الحاكم... وما شاكَل ذلك.
وفي ظل خطورة هذه الظاهرة التي لا تزال تتمتع بالحاضنة القوية في العراق والمنطقة؛ لا بد من التصدي لهذا الفكر المتطرف المنحرف عبر تجفيف منابع الإرهاب، من خلال دور أئمة المساجد، وتغيير الخطاب الديني وتجديده، واستغلال المؤسسة التعليمية في تشكيل الشخصية الإنسانية، وتربيتها، وصقلها عبر المناهج والأساليب والوسائل التعليمية، وتتبع مصادر التمويل والتسليح والدعم اللوجستي، ودعم الجهد الاستخباراتي الرديف للعمل العسكري والأمني، ولا بد بصورة أساس أن يُجَرَّم الإرهاب عبر القضاء، عملياً لا نظرياً فقط، من خلال إيقاع وتنفيذ أقسى العقوبات على المدانين بقضايا الإرهاب، واستغلال كل المنافذ الإعلامية: السمعية، والبصرية، والمقروءة، بما في ذلك المنصات الإلكترونية؛ لتفعيل آليات اجتثاث الفكر الإرهابي، وما يغذيه من فكر بعثي متاصّل ومتجذّر لدى المستفيدين من الحقبة الصدامية، وتكثيف حملات التوعية بالاطروحة الإسلامية المعتدلة.
https://telegram.me/buratha