محمد عبد الجبار الشبوط||
الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي عام قابل للقياس. وهذه الفكرة، بحد ذاتها معيار لقياس الدولة القائمة، من حيث انسجامها مع هذا الاتجاه التاريخي العام من جهة، ومن حيث تحقيقها لمعايير قياس الدولة الحضارية الحديثة، من جهة ثانية.
والحديث عن فشل الدولة العراقية الراهنة يتناول المسألة من زاويتين في ان معا: الزاوية الزمنية والزاوية المعيارية. زمنيا ندرس الدولة على مدى ١٠٠ سنة، ومعياريا ندرس الموقع الذي تحتله الدولة في مؤشرات قياس الدولة الحضارية الحديثة المتوفرة عالميا.
ذكرت هذا للتوضيح بان هذا الحديث لا يقيم الحكومات التي تعاقبت على حكم الدولة العراقية منذ قيامها قبل ١٠٠ عام، وانما يقيم الدولة في هذا المقطع الزمني، حتى وان كانت الحكومة احد مكونات الدولة كما ترى كتب القانون الدستوري الجامعية. مع ملاحظة ان تحليلنا لبنية الدولة يختلف جزئيا عما هو مذكور في هذه الكتب. فقد ذكرنا في المقالات السابقة ان الدولة تشمل اربعة عناصر هي: الناس، الارض، شبكة العلاقات، منظومة القيم.
الدولة هي النتاج الاعظم للناس. ففي كل المجتمعات، ينتج الناس، او يقيمون دولتهم. والناس فئتان حكام ومحكومون. ويتصرف الطرفان بناء على منظومة القيم العليا السائدة في المجتمع، والتي تحيط بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة: الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل. فاذا كانت منظومة القيم سلبية امكننا ان نتصور قيام دولة متخلفة. واذا كانت القيم صالحة، اصبح بالامكان توقع انبثاق الدولة الصالحة.
تعاقب على حكم العراق حتى الان اربعة انواع من الحكام: الملوك، الضباط، البعثيون، الاحزاب. وهذه المقالات لا تستهدف تقييم كل نوع على حدة. يستطيع القاريء ان يتصور ايجابيات او سلبيات كل نوع. ولن اتدخل في تصورات القراء هذه، لانها ليست الموضوع الذي اتناوله. فموضوعي المطروح للنقاش هو السؤال التالي: هل حققت الدولة العراقية بعناصرها الاربعة (الناس والارض والعلاقات المعنوية والمركب الحضاري) الدولة الحضارية الحديثة؟ هل سارت الدولة في خط الاتجاه التاريخي العام؟ وبالتالي هل تنطبق معايير الدولة الحضارية الحديثة على الدولة العراقية الراهنة؟
الاجابة عن هذه الاسئلة اصبحت معروفة. فالناس، من جهة اولى، يعرفون انهم لا يعيشون في دولة تحقق لهم متطلبات العيش الكريم، ومؤشرات الدولة الحضارية الحديثة العالمية، من جهة ثانية، لا تعطي درجة النجاح للدولة العراقية الراهنة.
اما الغرض من تناول المسألة بهذه الطريقة فهو توسيع افق النظر، وتعميق طريقة التحليل، خاصة وان بعض الناس ينظرون الى الموضوع من زاوية محدودة زمنيا، او ضيقة ايديولوجيا. والنظر الى الموضوع بهذه القيود والحدود يمنع الناظر من التوصل الى الاسباب العميقة للفشل في اقامة الدولة الحضارية الحديثة، كما يمنعه من التوصل الى معرفة سبل الخروج من حالة الفشل، ومن ثم اصلاح الدولة واعادة بنائها ووضعها على سكة الطريق المؤدي الى الدولة الحضارية الحديثة.
الظواهر التاريخية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخ لا تفسر بعامل واحد او سبب واحد. ولهذا فان بحثنا يسعى للتوصل الى مجموعة العوامل المشتركة في صنع الظاهرة. ولما كانت الدولة الحضارية الحديثة هي حصيلة العناصر الاربعة المذكورة انفا، فان النجاح في اقامتها يُعزى الى هذه العناصر مجتمعة، كما ان الفشل في اقامتها يعزى الى نفس هذه العناصر، كل عنصر بحسبه وبقدر حجمه وموقعه من البناء. واختصارا فاني الخص كل هذا الكلام بقولي: ان المركب الحضاري هو المسؤول عن النجاح او الفشل، والمركب الحضاري ليس عاملا واحدا، انما هو كل هذه العناصر مجتمعةً ومتفاعلةً فيما بينها. ولهذا فان فهم اسباب الفشل وتشخيص وصفة النجاح ينطلقان دائما من فكرة المركب الحضاري.
https://telegram.me/buratha