محمد وناس||
في طفولتنا كان الحصول على جهاز تسجيل الكاسيت ( راديو مسجل ) امر لا يوازيه اليوم الا الحصول على جهاز اي فون 11 او جهاز بلي ستيشن 4 .
في وقت يعتبر فيه جهاز المسجل من اغراض البيت العامة وليس للامتلاك الفردي ومن استطاع ان يمتلك جهاز تسجيل خاص به فهو من المميزين .
لم تكن كل البيوت في محلتنا القديمة امتلكت جهاز مسجل في منتصف ونهاية السبعينات مع فترة الانتعاش الذي مر به العراق , الا بعض البيوت الميسورة الحال .
منذ اليوم الاول من المحرم تنتشر الاخبار عن البيوت التي تقدم الطعام ( يطبخون للحسين ) وعن انواع المطبوخات وموعد طبخ كل بيت , وتشغلنا التحليلات والتصنيفات لأنواع الطبخ واي البيوت طبخهم الذ ,
نجري مسرعين بين الازقة نحمل في ايدينا بقايا قدور اتعبها فقرنا فاستحال لونها الى السواد مثل ملابسنا الحزينة على الحسين , فتكون الهريسة او القيمة هي الجائزة الكبرى .
من الشبابيك الخشبية الصغيرة المطلة على الازقة يهاجمنا صوت جاسم الطويرجاوي بنعاوية الحزينة , ومع صغر سني كنت اتوقف عن الجري وبيدي ذلك القدر الصغير الاسود بلا غطاء ,, يخطفني سيد جاسم من بين رفاقي المسرعين ويأخذني الى صوت جدتي وهي تنعى احبائها الغائبين الراحلين الى السماء . الى صوت امي وهي ترتل سمفونية الحزن العراقي ( دلول يالولد يابني دلول ) وهي تربت على صدر اخي الصعير لكي ينام .
وبمجرد ان ينتهي السيد جاسم قراءته اعود للجري على امل اللحاق بباقي اصدقائي او اللحاق بالهريسة قبل ان تنفذ .
لم اكن ادرك في وقتها السبب الذي يجعلني مكبلا عند سماعه . لم استوعب السحر الحلال الذي يخالط بحة صوته
او مقدار الحزن الذي يعتريه وهو ينعى الحسين .
في فترة الشباب ونحن نتنقل بين الكتب الممنوعة . ونستمع الى محاضرات الشيخ الوائلي يوميا عبر الراديو واحيانا السيد كمال الحيدري في بدايات محاضراته والتي كانت تبث عبر اذاعة طهران العربية كل يوم بعد صلاة الظهر , او في مجالسنا الخاصة جدا ونحن نتحاور في امور الفقه والفلسفة وغيرها من العلوم ونعيد تدور ما قراءنا بوعي او بترجيع دون فهم
في هذه الفترة ابتعدت عن الاستماع لصوت سيد جاسم الطويرجاوي وكنت احسب نفسي قد امتلكت اطراف العلم واستوعبت فنونه كلها واصبحت من الطبقة المثقفة , وما يقدمه سيد جاسم لن يضيف لي شيء جديد .
مع اني اليوم اجد نفسي عاجزا عن ادراك قيمة وسر هذا الرجل العظيم
لم يكن سيد جاسم الا عنوان للإخلاص الحسني الحقيقي
ونموذج للشجن والحزن المتأصل في طبيعة الفرد العراقي , رقة وحنين الامهات والجدات في بلاد النهرين .
صوت سيد جاسم ينقل الروح الى كربلاء الى الهوسات التي يرددها العشاق يوم العاشر في ركضة طويريج
الى الطف , في بث حي ومباشر حيث الرمال تخالط الدماء , عندما يمتزج دخان الخيام مع الدموع واهات صراخ اطفال الحسين ..