خالد جاسم الفرطوسي
لا ريب في أن الجماهير تُعتبر ميدان العمل المركزي للقوى الحية والشخصيات الديناميكية والقيادية العاملة من أجل تحقيق أهدفها حزبية كانت أو ذاتية، بغض النظر عن مدى تقاطع أو تضارب أهدافهم مع الأهداف الوطنية التي قد لا تنسجم بين تلك الأطراف لاختلاف المرجعيات والمنطلقات والمصالح.
ومن الثابت والمعلوم أن السبب الأساس الذي يدعو إلى تحريك الجماهير بعد ارتباطه بعامل أو أكثر من العوامل المذكورة أدناه، هو حدوث حادثة مستفزة مهيجة، هذه الحالة تجتذب الناس. وعلى هذا الأساس فأن هذه الحادثة تثير أولاعهم وحب استطلاعهم فيما يتعلق بهم، وإذا أصبح الفرد متهيئ إلى هذه الحالة فأنه يصبح عرضة لفقدان السيطرة على النفس وضبطها، مما يحفزه إلى العمل أو الشعور بضرورة القيام بعمل ما لإزالة هذه الوضعية والقضاء عليها، ومن ثم يندفع الناس للعمل المشترك من أجل القضاء على هذه الحالة المهيجة، ومن هنا يصبح هؤلاء الأفراد مهيئون تهيئة نفسانية لأن يسلكوا سلوكاً جماهيرياً، فيصبح هياجهم هياجاً جمعياً بعد أن كان هياجاً فردياً، وفي هذه المرحلة ينقل كل فرد هياجه إلى الآخرين، مما يؤدي إلى هياج الفرد ثم إلى اشتداد هيجان المجموع من جراء هذه العملية، ونتيجة لذلك يصبح الأفراد ميالين ميلاً تلقائياً لأن يعملوا معاً.
بعد هذه العملية ينشأ موضوع وهدف مشترك ينساق إليه الانتباه وتتركز فيه الحوافز والمشاعر، وهذا التماسك والتوجه يؤدي إلى ما يسمى بالسلوك الجمعي، وهنا يصبح الأفراد متهيئين لأن يعملوا على أساس هذه الحوافز التي تطغي عليهم وتتحكم فيهم وفي شدة ذلك السلوك، حيث أنهم أصبحوا يعانون حافزاً مشتركاً نحو أمر يدعوهم لأن يسلكوا سلوكاً أعتدائياً بكل سهولة ويسر. هذا الحراك الجماهيري المذكور مهما كان حجمه واتساعه وتأثيره وتتابعه فأنه يرتبط بعامل أو أكثر من العوامل التالية، التي ينبغي لمن يريد تحريك الجماهير أن يمعن النظر فيها بصورة دقيقة ويعمل على ضوء واحد أو أكثر منها، فمثلاً عامل العقيدة الدينية السائدة ومدى فعاليتها في تحريك السلوك وتوجيه الأفعال إيجاباً أو سلباً له دوره في تحريك الجماهير.
وعامل طبيعة الثقافة المجتمعية المعتَنقة والمنظومة القيمية السائدة ومدى تأثيرها على الواقع والسلوك، له دوره أيضاً في تحريك الجماهير، فرسوخ وانتشار ثقافة المقاومة والممانعة والتضحية يعني بالضرورة بث الديناميكية والحيوية والحراك العملي بين شرائح المجتمع، وعلى العكس من ذلك نرى أن ثقافة الخنوع والذاتية والخوف من المجهول والعزوف عن المواجهة تقود إلى عملية ركود اجتماعي وشعبي وبطء في التغيير يعمل على تقوية دعائم الاستبداد ودكتاتورية الحكم وإدارة شؤون المجتمع والدولة، ولهذا نرى الجهود الكبيرة المنصبة على اغتيال العقل والثقافة الإسلامية ومسخها وجعل حاملها يشعر بعقدة الضعف والتبعية والانبهار بثقافة الغرب وأدواته المتسلطة على مقدرات الشعوب وخيراتها، وذلك من أجل إنشاء جيل يرضى بالواقع ولا يسعى إلى التغيير الإيجابي الفعال المنطلق من المصالح الدينية والوطنية.
العامل الآخر الذي لا يقل أهمية عن العامليّن السابقيّن هو مستوى ارتباط نتائج ودوافع التحرك الجماهيري بالحاجات الأساسية للإنسان، كالأمن الشخصي وتوفير سبل الحياة من طعام وشراب ومسكن وعلاج، الأمر الذي جعل القوى المتسلطة تسعى إلى عدم إيجاد حالة من الاستقرار في تلك الحاجات لينحصر الاهتمام الشعبي في تحصيل الحد الأدنى منها، فلا هم يتركوه يجوع وتُهدد حياته باستمرار فيثور، ولا هم يتركوه مستقراً فيسعى للتغيير.
ومن العوامل المهمة الأخرى التي لها دور في تحريك الجماهير هو نوعية ومستوى وموقع القيادات المحركة للجماهير وحجم مشاركتها الفاعلة في التحرك والتفاعل مع قضايا المجتمع وهمومه، إضافة إلى كونها فردية أم ممثلة لأحزاب وجماعات لها عمق وانتشار داخل المجتمع، فالتحرك الذي تقوده أحزاب وجماعات لها ثقلها وقواعدها البشرية واسعة الانتشار والتأثير بين أفراد الشعب يكون أكبر وأقدر على الاستمرار وتحقق النتائج من التحركات التي تقودها قيادات فردية غير ممتلكة للرصيد الجماهيري.
أما المستوى التعليمي والثقافي للمجتمع أو الشرائح المستهدفة فأنه الآخر يلعب دوراً مهماً في عملية التحرك، لأن التحرك عن قناعة ودراية غالباً ما يؤدي إلى نتائج أفضل، إضافة إلى إذكائه روح المبادرة وإضعاف إمكانيات التضليل والخداع للمتعلم المثقف.
وهذا ما جعل ممن يقود الثورات أن يعمل على جعل الجماهير تمتلك وعياً دينياً وثقافياً وحقوقياً وفق ما هو مدون في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المدنية والسياسية، وجعلها أيضاً تدرك مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من أجل العمل على تحسين أوضاعها المادية والمعنوية عن طريق ممارسة الضغط على المسؤولين عن تردي الأوضاع المختلفة.
العامل الآخر والمهم الذي يركز عليه المفكرون والمؤسسون والقياديون الذين يهدفون للتحرك الجماهيري بأي شكل من أشكاله هو جعل الجماهير تدرك دور التنظيم في قيادة نضالاتها المطلبية، مما يجعلها بالتالي تحث الخُطى لغرض أن تنتظم لهذه الغاية.
هذه العوامل وغيرها هي جزء من عوامل عديدة يعتمد عليها كل من يريد أن يقوم بالتحريك الجماهيري، الذي يأخذ أشكالاً وأنواعاً مختلفة، منها التظاهرات والثورات والاعتصامات.
ومعرفة هذه العوامل ما هو إلا جزء من معرفة عالم الثورات وعالم الجماهير، فمن يدقق ويطلع على هذين العالميّن سيجد الكثير من المباحث التي ينبغي الاطلاع عليها من قبل من يهتم بهذا المجال، فمنه مثلاً معوقات التحرك الجماهيري وأشكال هذا التحرك وأهدافه وكيفية السيطرة على الجماهير وكيفية خداعهم وتضليلهم، ومنه أيضاً حالة الفرد في الجماهير وديناميكية الجماهير وأيدولوجيتهم وغير ذلك من مواضيع مهمة.
أما عن عامل التحريك الجماهيري الأساس والمهم الذي يعتمد عليه اليوم من يعتمد من أجهزة المخابرات العالمية ونحوهم ألا وهو الإعلام، فهذا مما يحتاج إلى دراسة مستقلة ومستفيضة، يتم التطرق فيها إلى الوسائل الحديثة المعتمد عليها في هذا المجال وكيفية تكوين غرف عمليات خاصة بها تماماً مثل غرف العمليات العسكرية، مضافاً إلى ضرورة التطرق حينها إلى الهيكل التنظيمي والوظيفي المفترض أن يتشكل لأي مؤسسة إعلامية تبغي تشكيل جيش الكتروني أو أن تعمل بالمناهج العلمية الحديثة تلك التي أثبتت نجاحها في هذا المجال، ومنه أيضاً التطرق إلى آلية تحديد أهداف هذه المنظمات وكيفية تحديد وسائل تحقيق هذه الأهداف، وما إلى ذلك من مباحث مهمة ودقيقة تعمل عليها اليوم أغلب المؤسسات الإعلامية التي تهدف إلى تحقيق أهدافها لتحقيق النجاح في مسير تكاملها.
بهذا يتبين لنا أن (عوامل التحريك الجماهيري) من المواضيع المهمة والأساسية التي يعمل عليها كل حزب أو جهة أو حكومة، حتى باتت اليوم أجهزة المخابرات العالمية وفي مقدمتها أمريكا تستخدمها في إسقاط الحكومات التي لا تتماشى مع أهدافها وسلوكها الإجرامي، وهذا ما يوجب البحث والدراسة الدقيقة والمستفيضة لها ولما يتعلق بها من مواضيع أخرى.