عمار محمد طيب العراقي||
عذرا سيداتي آنساتي سادتي، كما يقول مذيع نشرة الأخبار المسائية المملة من تلفاز الفضائية العراقية، هذه المرة أيضا أحاول أن أطرق باب عقولكم، لأستفزها كي تنظر الى النصف الفارغ من الكأس، لأننا أكتشفنا أن النصف المليان من الكأس، كان مملوءا قيحا وألما، على حد تعبير رجل خسره ناسه قبل أربعة عشر قرنا، لكن التاريخ ربحه الى الأبد، وليضحي مثالا لن يتكرر عن الحكم الرشيد.
ثمة طريقتان لا غير؛ ليكون لديك مبنى أعلى من مباني أنشأها غيرك..إما أن تدمر كل المباني من حولك ليبقى مبناك هو الأعلى، أو أن تبني أعلى من غيرك، لا أعلم من زرع هذه الفكرة في رأسي، لكني أجدها تعبر تعبيرا صادقا، عن ما يجب أن يكون عليه العمل السياسي الديمقراطي، خصوصا بعد أن تحولت الديمقراطية؛ من طريق سليم لإدارة شؤون الأمة، الى عبيء ثقيل عليها.
الشواهد تعد ولا تحصى، لكن أنصعها دلالة وأقربها حدوثا؛ هو مثال فتنة تشرين، حيث يستعد "التشارنة" الى الأحتفال بذكراها السنوية الأولى، بعدما أستطاعوا تنحية كل أساليب العمل الديمقراطي جانبا، لينتجوا لنا "سلطة" تنفيذية من خارج رحم الدستور.
لقد كان الثمن باهظا لبضاعة؛ أظهر تقرير الفحص الجمركي، أنها ليست تلك الموصوفة في مستندات الشحن! فالسلطة التنفيذية القائمة اليوم، سواء كان وجودها سببا لفتنة تشرين أو نتيجة لها، فإنها بضاعة لم يتم دفع ضريبة جمارك الديمقراطية عنها، لكن شعبنا دفع من دماء أبناءه، سواء المحتجين الذين قضوا نحبهم على مذبح مطالب مشروعة، أو الذين داستهم أقدام عصابات الجريمة، أو من رجال الأمن الذين أمروا بإخماد الأحتجاجات، ولكنهم جردوا من أي سلاح يحمون به أنفسهم.
قد أكون معتديا على عرش الهدوء الذي تنعمون به، في ظل الأمن المستتب ـ شنو يعني معنى مستتب؟! وقد تكون هذه خطيئتي مثلما هي خطيئتكم أننا نعشق هذا الوطن، وعشقنا يدفعنا لأن نريد له الموقع المستحق ،والمكانة الحضارية المتميزة بين الأوطان، حيث أنا وأنتم وهم وهن وكل أسماء الإشارة، نريد لبنيه الكرامة والحرية وحق تدبير شؤونهم، بما يكفل الحقوق والحريات وينهي عصور الظلام، التي استبد فيها منطق "أنا والبقية تحت عرشي"..
لكن المحصلة كانت استئساد بعضنا بالسلطة، واستئثار بعض آخر بالثروة أو بهما معا على الأعم الأغلب، وتلك هي الخيبة الكبرى التي كانت شرارة كير الحداد، التي أحدثت فتنة تشرين، التي ستكرس إنتصارها على الشعب بعد أيام، بأن يُنشأ لها نصبا في ساحة التحرير ببغداد يخلدها، لكن طبعا ليس من المحتمل أن يكون بين مفردات النصب، منظر الفتى ميثم البطاط معلقا في ساحة الوثبة، ولا منظر إحراق أكثر من 1200 محل تجاري في قلب بغداد، ولا مشهد العواهر وهن يمارسن الرذيلة علنا، في جبل أحد التركي.
للحظة أعيروني قحوف رؤوسكم، لأنفث بعضا من العدمية في هذه الصفحات، ما دامت مآسي الناس هنا لا تضع نقطة النهاية، إلا لتعود إلى السطر،...فالمهل ـ جمع مهلة ـ توشك أن تنقضي، ولا جديد تحت الشمس إلا النوايا، ولا يجب أن نحتفل ونرقص، بمجرد قراءتنا للنوايا، والنوايا وحدها لا تبني أوطان خربها الماضي الأسود، وعمق خراب الحاضر الرمادي!
نعود..فهل سنعترف في يوم قريب، بزيف الديمقراطية وغياب الشفافية والنزاهة في إدارة الدولة، وهو ضمنا اعتراف صريح بالفساد المستشري ونهب الثروات، وهل سنصحو في ذلك اليوم لنرى ميلاد خطاب جديد، هو ضمنيا تقييم للماضي القريب ـ ماضي ما بعد صدام وليس ماضي صدام، فصدام رحل ومعه ماضيه، لكن: أويلاخ من ماضينا الجديد، ويا ويلاه على حاضرنا، وأواه على مستقبلنا ...،
من المؤكد أن أصواتنا ستخبو وسط الضجيج حينا، وربما أحيانا، وقد نتحدث بلغة التفاؤل يوما؛ ونحن نرمي هذا الماضي الثقيل خلف ظهورنا، ونحبسه بين دفات الكتب التاريخية، لكن ذلك لن يحدث، إلا حين نرى هذا الوطن يتنفس العدالة والمساواة بين أبناء شعبه، وتعتلي آفاقه الحرية وكرامة العيش، ويعلو القانون ولا يعلى عليه.
حين ندري أن اجثتات الداء من جذوره؛ خير من سياسة النعامة، ستخبو أصواتنا وسط الضجيج حينا، لكن ستعود خطاباتنا إلى عهدها، بعد هنيهة أخرى من الخيبات، ونتمنى أن لا تعود..!
شكرا
21/9/202