سعود الساعدي||
منذ مطلع العقد الثاني من القرن الحادي عشر، بدأت واشنطن تدرك حدود قوتها وطبيعة توازنات القوى المستجدة، ما اضطرها لتغيير مسارها واعتماد سياسة الانكماش، والتركيز على الأولويات الجوهرية داخليا وخارجيا.
تكشف المعطيات الاخيرة عن المجتمع الاميركي، عن بروز وتنام حاد لتوجهين للقومية داخله، انتجا استقطابا متناميا، الاول تمثله قومية مدنية تتأسس على الايمان بالدستور والقانون والفردانية، وتؤمن بأن اميركا يجب ان تقود العالم وهي مكلفة بمهمة إلهية. فيما يمثل التوجه المضاد، قومية عنصرية تمثل السكان الأصليين البيض المؤمنين بماض قومي مثالي متضائل، ومن تخوف من فقدان الامتيازات والمكانة والمكاسب.
كما تكشف المعطيات أن اميركا تحولت الى دولة الحزب الواحد، ليس الحزب السياسي ذي الوجهين الديمقراطي والجمهوري فحسب، وانما دولة الحزب الرأسمالي، حزب رجال الاعمال الذي نقل اميركا من حكم الديمقراطية الى حكم البلوتقراطية "حكم طبقة الاثرياء"!.
لم تعد اميركا محصنة وقوية بل منهكة ومتراجعة، ويكفي ان دولة معادية مثل روسيا متهمة بمساعدة ترامب للوصول الى الرئاسة، فيما يبدو انه استعادة مقلوبة لجدلية سقوط الاتحاد السوفيتي السابق بمساعدة غورباتشوف! وما يذكر ايضا بتعبير اوباما في عام 2016 عن مخاوفه من ان: "يقود اﻻنقسام الحاد داخل الوﻻيات المتحدة الى نسق سيؤدي الى عودة الحرب اﻻهلية اﻻميركية بين الشمال والجنوب"!؟
وصول ترامب نفسه مثل عنوانا مثيرا للتفكك الداخلي للجمهورية، والاخفاق الخارجي للإمبراطورية، فقد كشف انتخاب الرئيس المثير للجدل والاستثنائي بمواصفاته، عن عمق الانقسامات الداخلية وحديتها، والتي أثرت في طبيعة دور واشنطن ورؤيتها للنظام الدولي. واقع اختصره تشومسكي بقوله: "ترامب حصيلة مجتمع متداع وماض بقوة نحو الانهيار".
مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية، ومع تزايد التهديدات الداخلية، وتعاظم التحديات الخارجية، يسعى النظام السياسي الاميركي عموما الى التكيف مع وباء كورونا رغم تعميقه للأزمة البنيوية الاميركية، واظهاره للتخبط والفشل والعجز في مواجهته، مع سعي الحزبين الجمهوري والديمقراطي - رغم الكباش الانتخابي - لتهيئة مناخ شبه طبيعي، عشية موعد الانتخابات الرئاسية، لتحاشي الاضطرار الى خيار التأجيل ما ينذر بالدخول في أزمة سياسية خانقة.
لا يبدو ان الانتقال السلس والسلمي للسلطة في الولايات المتحدة كما هو معتاد، سيكون حاضرا بعد الانتخابات الاميركية، مع ما شكله وصول ترامب للسلطة من تجاوز للاعراف السياسية التي غذتها مواقفه المعلنة بعدم مغادرة البيت الابيض تلقائيا، وعدم الاقرار بنتائج الانتخابات، والايعاز لمؤيديه المدججين بالسلاح لحمايته من ردود فعل المؤسسة العسكرية، التي دعت بعض اطرافها لاخلاء ترامب من البيت الابيض بالقوة في حال رفضه الخسارة، كرد ايضا على ما يدور في أروقة المؤسستين العسكرية والأمنية من نيات بالتدخل للسيطرة على "سلاسة تقليد التسليم والاستلام السلمي" للسلطة، ما يعكس حدة الصراعات المتنامية بين اقطاب المؤسسة العسكرية، وعمق الشروخ الاجتماعية في ظل تهديد ولايات كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن المطلّة على الساحل الغربي للولايات المتحدة بالانشقاق عن الاتحاد الفيدرالي القائم في حال تسلم الرئيس ترامب مهام ولاية رئاسية ثانية الامر الذي يهدد صيغة الحكم الفيدرالي، فضلا عن الانقسامات العمودية على عدة مستويات ليس اخرها تنامي الاحتجاجات ضد ممارسات اجهزة الشرطة العنصرية ضد السود، وتداعيات كل ذلك على الامبراطورية الاميركية العظمى ومخاطره على المستويات الاستراتيجية.
تدخل القوى الامنية الفيدرالية في بعض المدن نتج عنه تصادم مع صلاحيات بعض المدن والولايات، فاقمه تغول بعض الاجهزة الامنية وانتشار المليشيات المسلحة واعتداءات بعضها على التظاهرات السلمية، مع ازدياد حالات الجرائم العنصرية الرسمية، ما يعزز مناخ الفوضى والاضطرابات اثناء التصويت في الانتخابات في بعض الولايات، اضافة الى التخوف من احتمالية تجدد انتشار وباء كورونا، التي ما تزال قائمة بعد ان كشف الوباء في موجته الاولى عن تهرئ النظامين الصحي والاجتماعي، وضعف البنى التحتية في مناطق عديدة ما يضاعف التحديات ويزيد المخاطر.
من المتوقع ان لا يؤدي ازدياد وحدة وعمق وتداخل الازمات الاميركية الداخلية، الى تقويض سريع لأسس النظام الاميركي بسبب غياب الفاعِلَين الداخلي البديل والخارجي المستثمر، ولكن من المتوقع انه سيمثل مفصلا هاما في مسار التمزق المتسارع والانقسام المتنامي والتفكك المنتظر، ولا يبدو ان الدولة ستكون معه قادرة على احتمال تداعيات الازمات والإخفاقات الداخلية ولا الإمبراطورية قادرة على استعادة المبادرة في ظل الانقسامات الداخلية غير المسبوقة.
فوز ترامب سيعني استمرارا للاخفاق وتسريعا للسقوط، أما فوز الديمقرطيين فسيعني تهدئة وتسويات داخلية وخارجية، والمحصلة هي مزيد من التفكك الداخلي والتراجع الخارجي.
https://telegram.me/buratha