ضحى الخالدي||
تلونت سماء بيروت ذات مساء صيفي بكل ألوان الخريف بأعمدة الدخان المتصاعدة جراء الإنفجارات التي ضربت مرفأها العتيد ليصبح أثراً بعد عين حين غطَّت سحابة عش الغراب البيضاء دائرةً قطرها عدة كيلومترات, ليسرق الغراب لقمة العيش اللبنانية و يطير بها حين أهريق المخزون الإستراتيجي للقمح في لبنان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الذي ما عاد أبيضاً لما شهد من إبتلاع أمواجه لآلاف الأرواح المهاجرة, و عشرات المجازر الدموية على سواحله منذ حوالى عشر سنوات, و ليغدو مصير المنطقة حالكاً كدخان الغاز المتصارَع عليه في البلوك التاسع. مؤسسات إعلامية عالمية كشفت قصة السفينة روسوس الراسية في ميناء بيروت منذ عام 2013, و إعتراف قبطانها بحيثيات المسألة من الإبحار إلى الرسوّ, شركة موزنبيق لصناعة المتفجرات لشركات التعدين صرّحت ل CNN أن الشحنة تم إستيرادها من جورجيا لكنها لم تصل, و بذلك لم تدفع ثمنها لأنها لم تستلمها, و اشترت شحنةً أخرى عوضاً عنها, و تفاجأت الشركة لطول المدة التي تم الإحتفاظ خلالها بالمادة في المرفأ! الغريب أن الشركة علمت بمشاركتها في القصة عبر التقارير الإخبارية فقط, و تأسف لإقحام إسمها في الموضوع, , بل حتى السلطات المرفئية في موزنبيق نفت إعلامها رسمياً بالسفينة و شحنتها و وصولها المزمع إلى البلاد.
سارع الإسرائيليون إلى نفي صلتهم بالموضوع بالتزامن مع توجيه الإتهام لحزب الله بهذا الإنفجار ؛ الأمر الذي نفاه السيد حسن نصر الله نفياً قاطعاً في خطابه الذي اهتمت به صحف إسرائيلية مثل معاريف, وعبّرت عن أمل إسرائيل بأن يزداد الضغط على حزب الله بعد كارثة بيروت.
ظلت الصحافة الأميركية و الإسرائيلية تلوِّح بورقة الفوضى في الشارع اللبناني تحت بند التوقعات, لتقتحم الجموع الغاضبة مقرات بعض الوزارات اللبنانية فيما أُعتُبِرَ بانه محاولة لحرق الوثائق التي تدين الجهات المسيطرة على المرفأ بالفساد, و لتنتهي الأمور باستقالة حكومة حسان دياب و هي لم تكمل 6 أشهر من عمرها.
مركز بيغن-السادات الإسرائيلي بدوره تلقف اتهام حزب الله بالقضية و ضاعف الرهان على حدوث انفجار سياسي و اجتماعي بعد صدور الحكم على المتهمين بقضية اغتيال الحريري في محكمة لاهاي. بل و تتالت مقالاته متحدثةً عن منافذ حدودية بعينها و كأنها أهداف عسكرية قابلة للإستهداف في أي لحظة. ثم ليصرح علناً بأن الإنسحاب من جنوب لبنان في أيارعام 2000 كان خطأً إستراتيجياً.
ترامب صرَّح بإمكانية وجود عمل تخريبي, و الرئيس ميشال عون صرَّح ايضاً بإمكانية أن يكون هجوماً بصاروخ أو بقنبلة. الولايات المتحدة نفت علمها بالشحنة في البداية, لكن صحيفة الديلي ميل البريطانية كشفت مؤخراً عن أن خبيراً و مستشاراً أمنياً أميركياً متعاقداً مع البحرية اللبنانية (و حالياً في القوات المسلحة الأميركية) ضمن فريق تفتيش السلامة في عام 2016 كان قد رأى الشحنة و ظروف تخزينها السيئة و قد أبلغ عنها الجهات اللبنانية, و من المستحيل أن لا يكون قد أبلغ عنها الجهات الأميركية التي أرسلته للتعاقد مع لبنان.
علينا النظر من هو المستفيد؟ و ما أهدافه؟ الأهداف الآنية تحطيم الإقتصاد اللبناني و تجويع شعبه لخلق فتنة داخلية تسهم في نزع سلاح المقاومة, و هو الهدف الآني الثاني, فيما يتمحور الهدف الإستراتيجي حول أن لا يكون هناك ميناء منافس لميناء حيفا كمنفذ بحري يطل منه طريق الحرير على البحر الابيض المتوسط.
إسرائيل تتنبأ بوضع مشابه لما سبق الحرب الاهلية عام 1975, و تراهن عليه, و تعتبره فرصة لإعادة تموضعها في جنوب لبنان تحت ظروف تتخيلها مؤاتية كما في عام 1982, في لعبة خطرة على إسرائيل نفسها.
حينما يركز العدو الإسرائيلي على المووث الشيعي و يذكر اسم فاطمة 7 مرات و يذكر ولدها الحسين و ذبحه على يد الأمويين (و نحن مقبلون على عاشوراء) و حين يذكر بوابة فاطمة (بمواقعها الثلاث حيث يذكر ان بوابة فاطمة في ميناء بيروت دُمِّرَت جرّاء الإنفجار, و بوابة فاطمة في جنوب لبنان على الحدود الفلسطينية- اللبنانية, و بوابة فاطمة على الحدود السورية- اللبنانية)أو ما يشير إليها 8 مرات في مقال لا يتجاوز الصفحة من قياس A4, و نتذكر أن بوابة فاطمة الجنوبية وقف عندها الشهيد المهندس ذات مرة و الشيخ الخزعلي مرة أخرى, فلا نستبعد أن يكون الإنفجار التالي سواءً عسكرياً, إرهابياً, أو سياسياً, أو قضائياً, أو إجتماعياً في أي مكان يتواجد فيه الشيعة سواءً في العراق أو لبنان أو حتى اليمن, و قد تكون إشارة لها كمعبر لإجتياح الجنوب اللبناني. من الممكن أن تكون تفجيرات مهولة, إغتيالات لشخصيات هامة, أو عنف أهلي.
يراهن الصهاينة كثيراً على تأريخ الثامن عشر من آب- أغسطس 2020 كموعد لإنفجار الأوضاع باعتباره موعد النطق بالحكم على المتهمين بإغتيال الحريري في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؛ من أجل تأجيج الاوضاع الداخلية و تأليب الرأي العام على حزب الله. تأتي تصريحات سعد الدين الحريري عقب النطق بالحكم مثيرة للسخرية و الشفقة في آن واحد حين يطالب حزب الله بالتضحية!! فمن ضحَّى اكثر من حزب الله خصوصاً و أنه لم يمر على ذكرى الإنتصارعلى عدوان تموز 2006 سوى بضعة ايام؟!
تقترب حاملات الطائرات و المروحيات و البوارج الحربية الغربية من سواحل لبنان بحجة نقل المساعدات و الخبراء و التحقيق في ملابسات إنفجار مرفأ بيروت لتعلن عن حقبةٍ جديدة من الحرب, و تغيير لقواعد الإشتباك في صيف ساخن و خريف لاهب, مع إنقضاء صلاحية العقوبات على إيران بحظر شراء الأسلحة.
و ليس بعيداً عن ذلك, يأتي إتفاق التطبيع بين الإمارات و الكيان الصهيوني بعد أيام قلائل من كارثة مرفأ بيروت, لتنجح إسرائيل في الإقتراب من السواحل الإيرانية و الإشراف على مضيق هرمز عبر أراضي الإمارات, هذا على الجانب الأمني, و على الجانب الإقتصادي تعلم إسرائيل جيداً أن الولايات المتحدة منشغلة الآن بأوضاعها الداخلية و قد لا تكون دائماً جاهزةً لحمايتها عسكرياً و إقتصادياً, لذلك فهي تحاول البحث عن شركاء في الشرق منذ مدة غير قليلة, و كان توجهها نحو روسيا و الصين من أجل شراكات حقيقية تعويضاً عن الخلل الحاصل بسبب إنكفاء الولايات المتحدة على ذاتها تدريجياً.
عملت الولايات المتحدة و من ورائها الكيان الصهيوني على أن لا يكون العراق و سوريا و لبنان جزءاً من مبادرة الحزام و الطريق الصينية – طريق الحرير- فأفشلت الإتفاق الحكومي العراقي- الصيني قبل أن يتحول إلى إتفاقية يصادق عليها البرلمان, و أجهضت هذا المشروع بتظاهرات تشرين 2019 التي كان من ضمن مطالبها إلغاء هذا المشروع الذي يوفر عشرات الآلاف من فرص العمل إن لم يكن مئات الآلاف للعاطلين عن العمل الباحثين عن وطن, ناهيك عن تطوير البنى التحتية بالكامل.
يعلم الكيان الصهيوني جيداً ان مثل هكذا مشروع عملاق ينهض بالإقتصاد العراقي و يحقق الرخاء و الإستقرار هو من عوامل قوة بغداد و هذا شيء يخشاه أكثر من أي شء آخر, إضافةً إلى علمه بوجود قوة ممانعة في العراق لأن يكون هذا المشروع متصلاً بالأراضي الفلسطينية تحت نير الإحتلال الإسرائيلي, لذلك يعمد المعسكر الصهيوني- الخليجي لجعل هذا المشروع يمر من موانئ الإمارات و عبر الأراضي السعودية و الأردنية و منها إلى الأراضي الفلسطينية باتجاه البحر الأبيض المتوسط ليكون ميناء حيفا روتردام الشرق بامتياز. و لا يزال العدو الإسرائيلي في ذات الوقت طامحاً في إعادة الحياة لخط نفط كركوك- حيفا بأية وسيلة.يأتي كل ذلك في ظل تأليب إعلامي و سياسي و تمويل ضخم لمهاجمة وجود القوى الممانعة للتطبيع في العراق, و المتمثلة بالمقاومة العسكرية و السياسية و الحشد الشعبي.
تدخل التهديدات التركية بسحب السفير التركي من أبو ظبي إحتجاجاً على التطبيع الإماراتي- الصهيوني, في ظل الإعتداء الغاشم على الأراضي العراقية شمالاً –و بتواطؤ أو بلهجة أقل قسوة بسكوت مريب من حكومة أربيل- لتضيف شيئاً من الكوميديا السوداء إلى المشهد. تركيا التي تحاول أن تجد لها موطئ قدم في أثر كل خطوة تتراجعها الولايات المتحدة إلى الوراء في المنطقة, أقامت العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني منذ آذار 1949, و معظم السلاح التركي هو إسرائيلي المنشأ, و بلغ التبادل التجاري بين تركيا و إسرائيل 6 مليار دولار$ العام 2019 بضمنها 4 مليار دولار$ صادرات تركية رغم وقوف تركيا ضد قصف غزة عام 2008 و رغم إعتراض قوات الكوماندوز الإسرائيلية لسفينة (مافي مرمرة) ضمن أسطول الحرية الداعم لغزة, و قتلهم 10 ناشطين أتراك على السفينة العام 2010. يأتي مجمع الإستخبارات الإسرائيلية اليوم ليعتبر تركيا شديدة الخطورة على الأمن القومي الإسرائيلي بحجة دعم المجاميع الإخوانية في قطاع غزة. حقيقة الأمر تتمثل بالصراع على حقول الغاز الضخمة شرق المتوسط و الذي تتشاطأ عليه عدة دول (تركيا, اليونان, قبرص, سوريا,لبنان, فلسطين, مصر, ليبيا) مما دفع تركيا الى التفكير الجاد بإقامة قاعدة عسكرية شمال قبرص –قبرص التركية- بدأ هذا الصراع منذ 2009 حين بدأ الكيان الصهيوني بالتنقيب عن الغاز شرق المتوسط, و اشتد الصراع عام 2019 حين تم ترسيم الحدود البحرية التركية- الليبية لتكون السفن التجارية الإسرائيلية تحت رحمة البحرية التركية خصوصاً و نحن نعلم أن 99% من تجارة الكيان الصهيوني تتم عبر البحر بسبب المقاطعة العربية. 122 تريليون متر مكعب من الغاز هو حجم إحتياطي الغاز شرق المتوسط, وهو ليس بالرقم الهيِّن في حسابات حروب الطاقة.
الايام حبلى, و ما بين السطور العبرية يتردد اسم الحسين و فاطمة, و يقبل محرم الحرام, و يقبل تشرين جديد مسرعاً يتردد في الأرجاء صفير رياحه حاملاً صوت أغنية لبنانية تقول:
غدار..غدار..
شو بيشبهِك إنتِ..
شو بيشبهك تشرين!!
https://telegram.me/buratha