محمد وناس||
سيدة عجوز , بالرغم من عمرها الذي تجاوز الستين مازلت معالم الحسن تزين تضاريس وجهها المشرق .
كأن تراب الارض مزج بلون القمح ثم سقي من ماء الفرات ليصنع سمار ملامحها وزاده زينة وشم بلون الفيروز طرز وجهها ,
عينان اختلط فيهم لون العسل مع ال بُن , وقادتان تنطقان بلا حروف . عصابة وشيلة بريسم . وعباءة سوداء تزيدها وقار وهيبة مع قصر قامتها الواضح . و فوق رأسها ( كوشر ) من خوص النخيل . وهي تتهادى في مشيتها بين ازقة الحلة تعيد نفس السؤال كل مرة لكل من يلاقيها بحثا عن ذلك الزقاق الذي تسكن فيه ابنتها الصغرى , وكأنها تصرخ بصمت ( كيف يمكنكم ان تعيشوا هكذا محبوسين بين الازقة ) . وهي الريفية البرية الروح ,لا تسعها جدران ولا تعجبها حكايات المدينة,
من اخر الزقاق نسرع راكضين نحوها . ( جتي بيبي .. جتي بيبي ) نتراقص حولها فرحا وهي تنزل (الكوشر ) من فوق رأسها وتخرج ذلك الكيس الابيض الذي يعزف لحن الخردة من تحت (شيلتها ) . لتوزع علينا خمس فلوس او عشرة لكل واحد منا في احسن الاحوال ,
لا نبرح المكان ... فما زال في جعبتها الكثير . ( الكوشر ) . بين بيض وجبن . ولبن الكيس . و ما حملته من الريف لنا ( صوغة ) , نقلب اغراضها ولا نترك شيء دون ان نعرف ما يحتويه , وبعد ان ننتهي من استكشافنا وننال حصتنا السريعة منه نركض مسرعين الى اقرب حانوت لنشتري بما اعطتنا من فلوس .
... جملها التي يطغى السجع عليها . او ابيات الشعر التي تلقيها بعفوية وارتجال تهكما او نقدا لما يدور حولها من احداث . او حتى اهازيج الفرح في ختان او عرس احد احفادها , مازالت الى الان حاضرة في مخيلة من عاصرها .
لكن ابرز ما تحمله الذاكرة من ارث تلك العجوز والأكثر ألما . نعيها والحزن العجيب المتفجر من بين عباراتها . حين ما تندب الراحلين من اعزائها , وكيف تختار الكلمات الاكثر وجعا وتخترع العبارات المشبعة لوعة لتهدم اخر اسوار الصبر لسامعيها , وفي لحظات احمرار الشمس ساعة الغروب حين تنزوي بعيدا عند تلك الشجرة في اخر ساحة البيت الريفي لتحول هذا الانين الى لحن بابلي قديم مثقل بكل هموم الرافدين والساكنين في هذه الارض
...... صور من لحظات التصقت بذاكرتي لتلك العجوز الفراتية ( جدتي ) مع مجموعة من صور اخرى قليلة ومتفرقة .
وكل ما فكرت ان اكتب شي من ذكرياتي تراودني بقوة وتضغط على مخيلتي , قد يكون الحنين لتلك الايام , او بقايا ما زرعته فينا جدتي من حب , او اجترار لواقع عراقي لم يتغير منذ الازل نشاء معي كما حال العراقيين جميعا ,
وقد تتشابه الصور , فلا تختلف قصة هذه الفراتية عن قصص باقي العراقيات . والتي بدورها تشكل خزين ذاكرة عملاق لمن يخوض في ذاكرة بلد رسم الحزن الوانه القاتمة على محياه منذ فجر الكون . مع ومضات من فرح مبعثرة هنا وهناك نعيدها للذاكرة رغم عنها كل حين في محاولة منا لتحدي القسوة التي تجتاحنا كل ما تقادم بنا الزمن .
https://telegram.me/buratha