عمار محمد طيب العراقي ||
ذاكرة الأسماك قصيرة المدى، إذ أنها تبلغ أسبوعين عند بعض الأسماك، و قد تصل إلى عدة شهورٍ عند بعضها الآخر، لكنها لا تتعدى ذاكرتها ثلاثة أشهر غالبا، نعم قد تصل إلى ستة أشهر في بعض الأنواع...فيما الغراب الأسود الذي يمتاز بشكله الغريب نوعاً ما، حيثُ يبدو بهيئة المندهش؛ يعتبر أقوى الحيوانات ذاكرةً على الإطلاق..
ترى العراقيين يتغنون بحمورابي وأتونابشتم، وأتوحيكال، ويعرفون لون سروال الراقصة شغب، التي كانت ترقص في حضرة خليفتهم؛ الذي إينما امطر السحاب فهو ممطر في ارضه، بحكون لك قصص المقداد والمياسة وكأنهم شهودها، مع أنها قصة خرافية، ويحدثونك عن آبار الست زبيدة كأنما كانوا عمال حفرها..لكن ذاكرتهم تفشل دائما في تذكر الماضي القريب!
ذاكرة العراقيين من نوع ذاكرة السمك للذكريات القريبة، فهم غالبا ما ينسون أحداثا حدثت قبل أسابيع أو أشهر او لسنوات قليلة مضت، وخصوصا الذكريات المؤلمة، والأحداث القاسية..ربما هي مزية إيجابية يتصفون بها، لكنها هي بالضبط، ما تسبب بهذا الكم الهائل من الالام والآثام التي يعيشونها، وينسونها كالسمك بسرعة عجيبة..!
عندما كان البواسل من ابناء قواتنا المسلحة، وخصوصا أبطال الحشد الشعبي المقدس، يخوضون أواخر معارك الإنتصار على الدواعش الأشرار في أواسط عام 2017، بدأت هنا وهناك إحتجاجات وتظاهرات، تطالب بمطالب خدمية، كهرباء وبنى تحتية، ومعالجة مشكلة البطالة، سرعان ما تحولت الى مطالب سياسية تتحدث عن الفساد؛"كلهم حرامية"، وتطالب بتغييرات كبرى في العملية السياسية، وبرحيل كل الطبقة السياسية، على قاعدة"شلع قلع" التي نادى بها تيار سياسي شيعي، بدى أنه كان يحاول التخلص من نفسه!
كان من اللافت أن اليساريين والشيوعيين والمدنيين، وما يسمى بمنظمات المجتمع المدني، والتيار الديمقراطي وكل الأسماء الهلامية، ورواد الخمارات والملاهي وسكنة أزقة البتاويين الموبوءة بالرذيلة، كانوا في طليعة المتظاهرين عام 2017، وكل الذين تظاهروا لاحقا عام 2018 ، لكن الافت أيضا أن جميع هؤلاء، كانوا غير معنيين بتحرير أرض الوطن، من دنس الدواعش الأشرار، إذ لم تشاهد لكل هذه الهلمة بندقية واحدة في ساحات القتال، وحتى تيار"الشلع قلع" لم يشارك في معارك التحرير، وحصر وجود مقاتليه في منطقة واحدة قرب بغداد، وأتضح لاحقا وبدلائل ما حصل في إنتخابات 2018، أنهم كانوا يريدون بغداد!
بـغداد والشعراء والصور؛ ذهب الزمان وضوعه العطر..يا ألف ليلة يا مكمله الاعراس.. يغسل وجهك القمرُ..عيناك يا بغداد أغنيهٌ غنى الوجود بها ويختصرُ..
بغداد تعني الدولة وتعني السلطة والقوة والجاه والسلطان والمال..وهنا بيت القصيد؛ وهنا تنوخ رحال صناع حركات الإحتجاجات ومموليها، الذين تقاطروا من كل حدب وصوب، ليس لإحداث تغيير لمصلحة العراقيين، بل لتحطيم الانتصار الكبير على الدواعش في نهاية عام 2017!
الذين اوقودوا نيران الإحتجاجات؛ لم يكونوا يهدفون الى صناعة خبز الغد الأفضل، على نيران الإطارات المشتعلة، بل هم اوقدوها لكي لا يتطور الإنتصار المتحقق على الدواعش، الى صناعة عراق ينسجم مع روح الإنتصار..إنتصار يستثمر وبسرعة لإخراج قوات الإحتلال الأمريكي، والشروع ببناء عراق واحد موحد سيد مستقل، يتكاتف أبناءه منكبا الى منكب، لإعماره وإنشاء زقورة مجده في قلب بغداد..زقورة يعتليها المنتصرين!
وشيئا فشيئا بدأ الإنتصار يتآكل، وبات موضوعا في ذاكرة السمك، فلا دماء سالت من أجل التحرير، ولا عشرة آلاف شهيد وثلاثين ألف جريح من الحشد الشعبي فقط، بل وبات من المتعين التخلص من المنتصرين، ومن الصمام الذي اصدر فتوى الجهاد الكفائي، لأنهم أصبحوا نشازا وسط أجواء الردح والعهر والفجور..
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ )..!
تبقى قصة المظلومين الذين خرجوا بمطالب مشروعة، سكن، فرصة عمل، رعاية صحية، حقوق إنسان، كرامة لا يدوسها شرطي شرب من قيح البعث وثقافته، ماء شرب لا تأباه الحمير، كهرباء وقميص نظيف..هؤلاء بعد الذي جرى ويجري اليوم، باتوا ايضا نشازا، وستسحقهم مصالح الذين كانوا يدفعونهم للإحاجاج والتظاهر، وإغراق الشارع بالعنف وتعطيل الحياة العامة، لأن هؤلاء إنتقلوا من وسط المتظاهرين في ساحة التحرير، الى وسط الخضراء في مكان قريب جدا من سفارة الشر الأمريكي، التي باتوا يحرسونها بكل أريحية!
كيف يتم التخلص من ذاكرة السمك، تلك قصة أخرى منوطة بالذين طلبوا من عادل عبد المهدي أن يستقيل، دون أن يحددوا الخطوة التالية!
لا تغيير إيجابي سيحصل، وما سيحصل في الغد سيكون أسوأ مما يجري اليوم، واليوم أسوأ من الأمس، والعراق سيسلم على طبق من ذهب الى المجهول، بسبب ذاكرة السمك..!
لا تنسوا افواج مكافحة الدوام، فهي عار العراقيين الأبدي..!
شكرا
3/8/2020