المقالات

الشيخ الصغير يكتب..حينما كنت في الزنزانة وانتصرت ثورة الامام الخميني قدس سره الشريف بين دماء الجسد ودموع الفرح


سماحة الشيخ جلال الدين الصغير  

في مثل هذا اليوم منذ ما يزيد على الأربعين سنة وتحديداً في يوم 11/2/1979 كنت في زنزانتي الإنفرادية في البناية الحديثة لمديرية أمن بغداد قريبا من ملعب الشعب الدولي، والتي كان قد تم افتتاحها حديثها، ولعلي أول من استوطن تلك الزنزانة، كنت في عمر يزيد ببضع اشهر على الواحد والعشرين سنة، وكنت في تلك الفترة أنتظر تحويلي إلى مديرية الأمن العامة بعد أن لم يستطع محققوا الشعبة الخامسة أن يخرجوا بحصيلة مفيدة لهم رغم شدة التعذيب الذي تلقيته طوال ما يقرب من ثلاثة أشهر من الاعتقال بين الشعبة الخامسة في كربلاء وبين نظيرتها في بغداد، كان التحقيق المزعوم يكاد أن يكون قد انتهى في تلك الفترة، إذ كنت وقعت على إفادة وأنا مغمض العينين، وللإنصاف فقد كان الجلادون أكفّاء ومهنيون جداً في صنعتهم، فالتعذيب طال قرابة الأشهر الثلاث والتي سلفت وكان احترافياً ومتميزاً للغاية، ويكفي أن يكون التحقيق قد تولاه المجرم الشهير فاضل الزركاني معاون مدير أمن بغداد يومذاك، بمعية المجرم محمد التكريتي ضابط تحقيق الشعبة الخامسة يومئذ وكان بديلاً على ما يبدو عن المجرم نوري الفلوجي ومعهم جوقة الإنس المفوض قدوري وفلاح وأمثالهم، وذلك بعد حفلات التعذيب في كربلاء على يد مدير أمن كربلاء حذيفة، وضابط تحقيق الشعبة الخامسة الجلاد شاكر السماويولهذا لم أتوقع أن يتم مناداتي إلى التحقيق مجدداً، ولكن حينما سمعت رئيس العرفاء حكمت وهو أحد أسوء مسؤولي الحرس الذين رأيتهم طوال فترات اعتقالي، ينادي على اسمي تصورت أن يقال لي أن أجمع أغراضي، ولكن رؤيتي لصادق مراسل شعبة التحقيق جعلتي أعيش قلقاً كبيراً، فالدعوة إلى شعبة التحقيق مجدداً لا تعني إلا قصة واحدة لا غير أن ملفاً جديداً قد تم فتحه، وهذا ما يعني العودة إلى حفلات التعذيب، وما تعني هذه الجملة من معنى للجوارح وأعضاء البدن، كانت تقلصات البطن قد أخذت مأخذها، ووجيب القلب لم يك وجيباً بقدر ما كان يمكن أن تسمع له طنين ورنين وعندئذ سمّه ما تسميه.

كان إلى جواري في الزنزانة على اليمين زنزانة انفرادية أخرى فيها يومذاك سيدة كان تنتمي إلى الحزب الشيوعي إن لم تخني الذاكرة، وإلى يساري كان موقف مديرية الأمن والذي يتم فيه إيداع رجال الأمن الذين تصدر بحقهم عقوبة ما، وغالبيتهم يومئذ كانوا من أمن المطار، وقد زادتني تعليقات هؤلاء الشامتة مشاعر الخيفة والقلق ممّا يدور في أروقة الشعب التحقيقية إذ غالباً ما كان هؤلاء يعرفون بما يجري في هذه الشعب.

على أي حال خرجت من زنزانتي متباطئاً وسط زعيق حكمت وتوتره، وسرعان ما وضعت العصابة على عيني واقتادني صادق إلى مقر الشعبة، وقد سألته عن سبب الإستدعاء فأنكر أن يكون قد عرف شيئاً، وفي الغالب كنت أحسبه صادقاً في مثل هذه الامور لطبيعة العلاقة التي امتدت عبر فترات الإعتقال السابقة والحالية، وعلى أي حال وصلنا إلى الطابق الثالث أو الرابع لا أتذكر بالضبط فسمعت فاضل الزركاني ومحمد التكريتي يتحدثون وما أن تم إدخالي إلى غرفة التحقيق حتى ابتدأ المحققون عملهم الذي لا يجيدون غيره، لم يك الضرب المبرح هو الذي يقلقني بقدر ما كان يقلقني السبب الذي تم استدعائي لأجله، لم يمض وقتاً كثيراً حتى تم تعليقي لممارسة ما كنا نسميه رياضة الفلقة، وهذه الرياضة تختلف أدواتها من مكان إلى آخر رغم أنها من حيث المضمون واحدة، وكان نصيبي في الشعبة الخامسة أن تكون الخشبة التي يتم تعليق رجليك من خلالها بمقاس 2.5 إنج في ما يماثله، بحيث مع أول برم لحبل الطنّب على القدم وهو الحبل المتخذ من الليف ويتميز بقسوته الشديدة على البدن، يتم لصق الخشبة على عظم الساق من جهة وعظم الكعب من جهة أخرى ومع حرص الجماعة على إتقان عملهم فقد كانوا كرماء في عملية برم الحبل، وهي عملية لوحدها كانت تمثل تعذيباً لا يطاق، ولا أدري إن كان الضرب الذي ينهال من بعدها على الأقدام ينسينا قسوة الحبل وخشبته، أم أنه هو الذي ينسينا الكرم الحاتمي في عدد الكرابيج التي نسميها بالصوندات والتي كانت تتلوى على أقدامنا وما تلوحه من بقية الجسم.

كان الضرب مستمراً من الساعة العاشرة صباحاً أو ما يزيد عليها بقليل دون أن ينطق الجلادون أي كلمة عن السبب، وما كانت أسئلتي لهم عن السبب لتجد جواباً، وإنما كان الصوت الوحيد الذي يسمع هو وقع الصوندات على البدن، وما يندّ من المعذبين من أنين أو صراخ أو تأوّه أو ما شاكل، إلى أن استسلمت لقدري وما عدت أسألهم عن سبب تعذيبهم إياي، كانت الصوندة المستخدمة في الغالب هي ما كانوا يسمونها برقم 7 وهي في حقيقتها هوز من مطاط سميك يتم ضغطه على بعضه أو كيبل كهربائي يتم سحب أسلاك النحاس منه، بعرض يقرب من الأصابع الثلاثة، ويتم دهنها بمواد من شأنها أن يجعلها مطواعة لمداراة أجساد الذين تعانقهم بلسعاتها!! وأما الجلاوزة فقد كان إثنان منهم يحملان خشبة التعليق وإثنان يتولان الضرب، وضربهما كان حميمياً جداً فهو ضرب من يلاحقك بقتيل، لا يعرف أية رحمة ولا يعرف الراحة، فلو تعب الحاملون يتم استبدالهم بغيرهم، ونفس الأمر يحصل مع الذين يتولون الضرب، ظل القوم يمارسون الضرب إلى أن قرروا التوقف عن استخدام الفلقة، وتم سحب الخشبة من الحبل فيما كان نزف الدم قد أخذ مأخذه من عدة مواقع في قدمي كما يظهر من انزلاق القدم على بلاط غرفة التحقيق، ولكن ما أن تحررت الخشبة من الحبل حتى وجدت نفسي أضرب بها بطريقة حرة!!

في التعذيب كان المحققون يستخدمون الفلقة مع نمطين من المعذبين، أولهما من يمتلك المعلومات، وثانيهما من له شانية اجتماعية ولا يريدون للتعذيب أن يترك عاهة ظاهرة، ولهذا يكون التعذيب بالفلقة مع أنه أكثر ألماً وأكثر تأثيراً من أي وسيلة أخرى، غير أن فيه امتياز أن مناطق محددة من الجسد هي التي يطالها التعذيب، أما في التعذيب الذي أطلق عليه مجازاً بالضرب الحر، فإنه لن يتقيد أين ستقع الضربة، والخشب بطبيعته له أذية أكبر من غيره خاصة وأنه طال المناطق القابلة للكسر والظهر، وعلى أي حال بعد ثلث ساعة من الاحتفال أعلن المحققون انتهاء الجولة، وقد دامت إلى ما يزيد على الساعة الواحدة والربع تقريباً.

حملوني ووضعوا حذائي بما يمكن أن يتسع من قدمي التي تورمت إلى حدود بارزة، ولكن بقي القلق يساورني بشدة عن سبب ذلك، فلا هم سألوا عن أمر، ولا تحدثوا عن أمر، ولا طلبوا التوقيع على أمر، وإنما كل الذي حظيت به هو سكوتهم عما كانوا يفعلونه، وأنزلني صادق بمعية رجل آخر منهم حتى استلمني منهم حكمت رئيس الحرس الذي أفاض من قذر لسانه ما أفاض كعادته مع كل السجناء لاسيما السياسيين، وعدت إلى زنزانتي وأنا لا أقوى على أي حركة، ولكن الهاجس الذي كان يقض مضاجعي هل سيعاودون الكرّة من جديد؟!

من حسن الحظ أن مناوبة حكمت تنتهي عند الثالثة ويأتي بعده رئيس عرفاء اسمه يونس الشمري، وكان الرجل من أحسن الناس خلقاً ورحمة بالسياسيين، ومن أشدهم على السجناء لأسباب أخلاقية وأمثالها، ولأني كنت في الإنفرادي وتحت التعذيب فقد كان يحيطني بعناية بالغة، وكعادته كان أول ما يأتي يفتح الأبواب لغرض استخدام الحمامات بعد أن يكون حكمت قد مارس كل نشوته في حرمان الإنفرادي من ذلك، ولكن يونس في هذا اليوم كان على غير عادته، فما أن أطل عليّ حتى بارك لي ما حصل في هذا اليوم، فقلت له متهكماً ومستغرباً: هل تبارك لي على حفلة التعذيب؟ فقال لي: بل أبارك لك انتصار صاحبك!! 

أنا دخلت إلى السجن وكانت الأحداث العامة متعلقة بحدثين كبيرين الأول كامب ديفيد وصلح السادات مع مناحيم بيغن رئيس وزراء العدو الصهيوني، وكنا تواقين في أن ينتقم الله من السادات على خطوة الخيانة تلك، والأخرى أن الشعب الإيراني كان منتفضاً ضد الشاه المقبور بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه، ولكن وجودي في الإنفرادي يعني ان لا نعرف أي شيء عما يجري في الخارج، وتصوّر انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان عسيراً لطبيعة جبروت الشاه والدعم الأمريكي والإسرائيلي له، ولذلك استوضحت من يونس مجدداً عما عناه في مباركته، فقال لي والبسمة على ثغره: انتصر الخميني!! قالها وسارع بالخروج من الغرفة!

يا الله كانت أول كلمة انطقها حينما سمعت بالخبر على شكل صرخة خافتة، ومعها كانت عيوني تذرف دموع الفرح ولعلها اول مرة في حياتي ابكي فرحاً، وكان لساني يلهج بكلمات الحمد والشكر لله!! جسمي الذي كان ينزف، وقدماي التي كان الورم قد علاهما لم يمنعهما من أن أقف عليهما لأقفز في أرجاء الغرفة من شديد الفرحة بعظيم النعمة الإلهية التي حصلت، ولكن حينما عدت الى الامي وجراحي فاني لا أخفي ان بعضاً من فرحتي كان مرتبطاً أيضا في معرفتي بسبب التعذيب الصامت الذي نلته صباح اليوم!! فالنظام أرسل بطاقة مشاعر أحقاده بشكل سريع، وسار من بعده جحفل الرعاع!!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
احمد الجنابي
2020-03-22
َالسلام عليكم شيخنا الفاضل الحمد لله على سلامتكم لقد مارس المقبور الملعون هدام جريمة إبادة للعقول العراقية فإما قتلها او هجرها او اصمتها بظلمه وطغيانه وهذه تمثل خسارة كبيرة للعراق والأمة الإسلامية ونسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتكم وان يديم افاظاتكم خدمة للمذهب والدين وحفظكم الله من كل شر امين يارب العالمين
عباس المالكي
2020-02-11
يجب أن تتولى جهة ما عملية فضح البعث حتى لا يضلل النشأ الجديد
ام السادة
2020-02-11
ويلهم من عذاب الله .. احتقرت نفسي كثيراً عندما كنت اقرأ عن معاناتكم شيخنا الفاضل لاننا كنا نعيش تحت نفس السماء ونفس الارض ونتمتع بالخير في حين انكم كنتم بهذه المعاناة والظلم ..هنيئاً لكم جهادكم في سبيل الله في الماضي والحاظر واطال الله في عمركم لخدمة الاسلام والمنتظرين
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك