طيب العراقي
يقول علماء الإجتماع، إن معظم أعمال الشغب تتشكل من مرحلتين: الأولى إسقاط هوية فرد أو مجموعة، والثانية محاولة هذا الفرد أو المجموعة؛ الإعراب عن هوية أو شخصية جديدة، مع توفر كل المبررات من أجل التغيير.
تحت ظلال حرية التظاهر والإحتجاج، التي كفلها دستورنا بنصوص غامضة غير منظمة، ها هي مدننا تعصف بها موجة عنف وتخريب ليست مسبوقة، لتجد نفسها أمام ساسة محترفين للدجل السياسي؛ ينصحونها بضبط النفس!
يكاد الأسلوب يتشابه، باختلاف المقاصد والأهداف، بين حركات تغيير أطلقوا عليها بدون اتفاق «الربيع العربي»، والشكل العام الذي بدت عليه حركة الشارع الفوضوية الشعبوية؛ الميالة للعنف وخرق القانون، الذي تفتخر المدنية والعلمانية بتصديره للشعوب.
الإنترنت، بعوالمه الافتراضية الواسعة، بدا خارج عن السيطرة، مربيا جيله الذي لا يمشي على الأرض.
لقد اكتسب الفتيان تجاربهم من «البلاي ستيشن» وأفلام العنف والفنتازيا المشوشة، ونمت معها عضلات غير متوافقة مع طموحاتهم، وطاقات غير مواتية لأحلامهم، فكان خيارهم الحصول على الهدف بأقصر الطرق، حتى لو مالت أساليبهم إلى العنف وخرق قوانين وقيم المجتمع، طالما أن المجتمع نفسه؛ هو الذي سمحوا لهم بالعيش الافتراضي، وسط هرولة وتزاحم الجميع، في مجتمع إستهلاكي آخذ بالتوسع في عالم لا يرحم.
بموازاة ذلك، تصور المضغوطين المثقلين بالهم، والخوف من مستقبل مجهول، أنه من غير الممكن تخيل الحصول على الحق، دون أن يسلكوا طريق العنف والشغب.
لا يحتاج الأمر للفلسفة والسيكولوجيا لتبرير العنف، لكن حرق المدن لا ينصاع للتصريحات ولا يتم إطفاؤه بالحجج، فالمتطلع المخدوع يلجأ إلى الشغب لتحقيق أهداف رسمها له الفيسبوك، وزينها له على أنها غاية الطلب ونهاية المأمول، وأن لا حرية أو عدالة بدون تحقيقها، حتى لو أغلقنا الجامعات والمدارس والمستشفيات وقطعنا الطرقات، وتوقفنا عن الأكل والنوم والأحلام!
الاكتئاب والإحباط الذي يعانيه الشباب، لا بد أن يفرز الغضب؛ الذي يقود إلى الكحول والمخدرات والعنف البدني الأسري، هذا الغضب تلقفه أصحاب الأجندات الخبيثة؛ فنفخوا في جمره، وتبنوه بعدما أدارت الدولة ظهرها لحلول حقيقية، تعالج بإخلاص مكامن الظلم في المنظومة الاجتماعية.
هناك استياء في المجتمع؛ لأن سوء إدارة الدولة دفعت الناس، والشباب منهم على وجه الخصوص إلى الهامش، فهم يصحون كل يوم بدون توجه الى عمل مثمر، والعاطلون بالنتيجة، يتضاءل أملهم في الحصول على عمل، ناهيك عن اتساع الهوة بين الأغنياء والجميع، وهذا يحصل على نطاق واسع. فماذا يفعل اليائسون في هذه الحالة؟
أسباب الحكومة وأسباب المحتجين واضحة بما يكفي، لكن حصر الاتهامات بـ«الجوكر» و«الأجندة الخارجية» أمر مثير للشفقة.
في أحد الأيام كان صاحب البسطية "عبد الزهرة" قد وضع بضاعته للتو وبدأ بالنداء عليها، لكن "شفل" أمانة بغداد وشرطتها، داهموه وخربوا بسطيته وأتلفوا بضاعته بعدما ضربوه، عاد الى بيته في حي التجاوز خلف السدة، ليجد بيته مهدما وأطفاله وأمه وزوجته بالعراء!
منظومة السلطة في العراق لم تفشل سياسيا فحسب، بل أمعنت في الفشل الأخلاقي. فهي لم تكن الأب الرحيم، ولا الحاكم العادل، ولم تراع الضغوط الكامنة التي تصنع المجرمين وتولد العنف، وتركت «أبطال الفساد» طلقاء يعيثون بالاقتصاد عبثا، فيما تنتشل المجرمين الصغار في هوامش المدن وتحرمهم حتى من القمامة.
الشبان يرون كل شيء سائرا نحو الأسوأ، على حساب الإنفاق في المجالات الاجتماعية والبرامج العامة التي تمسهم مباشرة، لذلك ليس أمامهم غير ممارسة «متعة» العالم الافتراضي، لكن هذه المرة في شوارع المدينة وبدلا من تحطيم العدو في لعبة فيديو، هناك الكثير من الرموز الواقعية يمكن النيل منها.
ـــــــــــــــــ
شكراً 2020/2/1
https://telegram.me/buratha