عادل الجبوري
في الربع الأخير من عام 2019، اندلعت موجة تظاهرات احتجاجية واسعة في العاصمة العراقية بغداد ومدن اخرى في الوسط والجنوب، حملت جملة مطالب تتعلق بإصلاح النظام السياسي، وتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل ومحاربة الفساد.
ومع ان ذلك الحراك الجماهيري الواسع، اتخذ طابعا سلميا في اطاره العام، الا ان مظاهر عنف وفوضى غير قليلة تخللته منذ البداية، ولم يكن ممكنا في خضم الانفعالات العارمة، ضبط ايقاع الشارع، رغم توجيهات ووصايا وتأكيدات المرجعية الدينية في النجف الاشرف، وجهود وتحركات ومساعي وخطوات الحكومة والبرلمان وبعض القوى المجتمعية مثل العشائر والنخب الثقافية والاكاديمية.
هكذا كانت صورة الشهور الثلاثة الاخيرة من العام 2019 في العراق، وهكذا سيدخل عام 2020، والذي من المتوقع ان تستمر وتتواصل خلاله تفاعلات وتداعيات وافرازات الحركة الاحتجاجية بشقيها الايجابي والسلبي، العنفي والسلمي، حتى وان تحققت خطوات واضحة وملموسة في طريق الاصلاح، من قبيل تشكيل حكومة جديدة، واجراء انتخابات مبكرة، واجراء حزمة تعديلات دستورية تطالب بها الجماهير.
ولان الامور بخواتيمها، فإن من يتحدث عن ابرز وقائع واحداث 2019، لا بد ان يركز بشكل عام على التظاهرات الاحتجاجية وخلفياتها وتداعياتها ومخرجاتها المستقبلية المحتملة.
وقبل اندلاع التظاهرات، فإن التقييم الموضوعي الهادئ، يقتضي الاشارة الى جملة من الخطوات المهمة التي قامت بها حكومة عادل عبد المهدي التي لم يكن مر عليها اكثر من شهرين بداية عام 2019.
فعبد المهدي بدأ العمل على برنامج حكومي مفصل، وفق رؤية عميقة ذات طابع اقتصادي، استندت الى مبدأ تبني سياسة خارجية منفتحة ومتعددة الابعاد والاتجاهات، ترجمها عبد المهدي بجولات اقليمية ودولية شملت عدة دول، وقد كانت زيارته التاريخية للصين في التاسع عشر من شهر ايلول-سبتمبر الماضي، نقطة تحول كبيرة ومهمة للغاية، لانها رسمت افقا جيدا للنهوض بالواقع الاقتصادي والحياتي العام للعراق، عبر ابرام جملة اتفاقيات في مجالات الطاقة والاسكان والصحة والتعليم والمواصلات بين بغداد وبكين، علما ان عموم الاتفاق العراقي الصيني دخل حيز التنفيذ في شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي، وهذا ما اغضب الولايات المتحدة الاميركية كثيرا، والتي لم يزرها عبد المهدي رغم الدعوات المتكررة له من البيت الابيض، منذ اليوم الاول لتوليه رئاسة الحكومة.
الخطوة المهمة الاخرى التي اقدم عليها عبد المهدي، تمثلت بإصدار امر ديواني في الاول من شهر تموز-يوليو الماضي، يقضي بإعادة هيكلة الحشد الشعبي، وجعله مؤسسة رسمية الى جانب المؤسسات الامنية الاخرى في الدولة، وتخضع لامرة القائد العام للقوات المسلحة.
وهذه الخطوة، هي الاخرى اثارت حفيظة اطراف داخلية وخارجية مختلفة، في مقدمتها واشنطن و"تل ابيب"، كانت تعمل وتخطط لاضعاف وتهميش الحشد، ان لم يكن حله وانهائه بالكامل، ولعل ذلك القرار، هو الذي جعل اميركا واسرائيل توجهان ضربات جوية وصاروخية لقوات الحشد في مناطق مختلفة، كان اخرها استهداف مواقع تابعة للواءين الخامس والاربعين والسادس والاربعين في قضاء القائم قرب الحدود العراقية-السورية، اذ اسفر عن استشهاد واصابة العشرات من مقاتلي الحشد، وقبل ذلك، وتحديدا في اواخر شهر اب-اغسطس الماضي، كانت اسرائيل قد قصف بطائرات مسيرة مواقع للحشد في مناطق قرب الحدود العراقية-السورية.
مضافا الى ذلك، فإن العام المنقضي، شهد انتقالات مهمة نحو الامام في مسيرة العلاقات العراقية-الايرانية، في ظل سياسات كلا الجانبين القائمة على الانفتاح وتعزيز وتفعيل المصالح المتبادلة واستثمار القواسم المشتركة، وبينما زار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في الثاني والعشرين من شهر تموز-يوليو طهران، كان الرئيس الايراني قد زار العراق في الحادي عشر من شهر اذار-مارس الماضي على رأس وفد رفيع المستوى، والتقى كبار الشخصيات السياسية والدينية، وتضمنت زيارته ابرام عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم في المجالات الاقتصادية والسياسية والامنية والثقافية والسياحية.
وطبيعي انه لم يكن تنامي العلاقات بين بغداد وطهران في العام الاول من عمر حكومة عبد المهدي، موضع ارتياح واشنطن وعواصم دولية واقليمية عربية عديدة، وهذا ما مثل عاملا اضافيا اخر دفع ادارة البيت الابيض الى العمل على اضعاف عبد المهدي، واكثر من ذلك ربما الاطاحة به، وقد لا يخرج قراره بالاستقالة في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني-نوفمبر من هذا العام عما كانت تخطط له وتريده واشنطن، رغم ان ظاهر قرار الاستقالة جاء استجابة لتوجهات المرجعية الدينية وحراك الشارع، لان الكثير من المؤشرات اكدت واثبتت ان الجانب الفوضوي التخريبي الذي تخلل الحراك الجماهيري السلمي، كانت تقف وراءه جهات خارجية عبر سفاراتها في بغداد، والجهات والمجاميع المخربة والمنفلتة المدعومة منها.
وفي اطار الرؤية الاستشرافية لصورة ومشهد عام 2020 في العراق، فإنه على ما يبدو ستكون أحداثه وتفاعلاته امتدادا لاحداث وتفاعلات العام السابق له، فالحراك الاحتجاجي لن يتوقف تماما، وان اتجه الى الهدوء نوعا ما، ارتباطا بتلبية المطالب المشروعة، ورئاسة وتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة، ربما يستغرقان وقتا غير قصير، وبحسب مجمل التوقعات، فإن الانتخابات المبكرة في حال كتب لها ان تجرى فإنها لن تكون في النصف الثاني من العام الجديد، وعلى الارجح في نهاياته، اما التجاذبات والاحتكاكات بين الحشد وخصومه واعدائه فلن تتوقف، لا سيما وان الرسائل التي بعثت بها ردود الافعال الرافضة والغاضبة للاعتداء الاخير على قوات الحشد، انطوت على دلالات واشارات عميقة ومهمة وخطيرة للغاية. وستبقى صور ومشاهد الحشود الجماهيرية المحتشدة امام السفارة الاميركية في المنطقة الخضراء في اليوم الاخير من عام 2019، وهي تردد الشعارات المناهضة لاميركا واسرائيل، والمؤيدة للمرجعية الدينية، وهي تؤدي صلاة الجماعة، وترفع اعلام المقاومة فوق جدران السفارة، ستبقى تلك الصور والمشاهد ماثلة وشاخصة في الاذهان، وعلى صناع القرار في واشنطن التوقف عندها طويلا، لان ما وراءها وبين طياتها يعني الشيء الكثير.
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha