عادل الجبوري كان المشهد، صباح يوم الخميس الماضي، الخامس من شهر كانون الاول- ديسمبر الجاري، في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، لافتا ومتميزا وربما كان مختلفا الى حد كبير عما سبقه من مشاهد. ففي ساعات الصباح الاولى من ذلك اليوم، أطلقت الحشود الجماهيرية الغفيرة التي غصت بها ساحة التحرير والمناطق المحيطة بها، رسالة بليغة وقوية انطوت على دلالات ومعانٍ عميقة، وأوصدت الأبواب بالكامل أمام كل المخططات والأجندات التخريبية والتدميرية التي أرادت اغراق العراق في دوامة العنف والفوضى والاقتتال الداخلي. وكما يرى كثيرون، عبرت التظاهرات السلمية الحاشدة عن عمق ارتباط الملايين بالمرجعية الدينية المتمثلة بآية الله العظمى السيد علي السيستاني، والالتزام بتوصياتها وتوجيهاتها، التي تمحورت بالدرجة الأساس على سلمية التظاهرات المطالبة بالاصلاحات، والمحافظة على الممتلكات العامة والخاصة، ومنع التدخلات الخارجية في شؤون البلاد. ان حشود الخميس المليونية كرست ورسخت صورة التظاهرات السلمية التي رسمها العراقيون بغالبيتهم المطلقة، واثبتت ان مظاهر العنف والفوضى والاعتداءات والتجاوزات على الممتلكات العامة والخاصة، هي سلوكيات وممارسات دخيلة قامت بها مجاميع مخربة ومندسة تقف وراءها جهات لا تريد لهذا البلد خيرا. ولا شك ان هذه دلالات مهمة وعميقة انطوت عليها التظاهرات السلمية الحاشدة التي شهدتها ساحة التحرير، لا سيما وان مختلف فئات وشرائح المجتمع العراقي شاركت فيها، في نفس الوقت جاءت تلك التظاهرات بعد استتباب الامور وعودة الهدوء الى محافظتي ذي قار والنجف بعد فترة من الفوضى والاضطراب. وتترسخ وتتأكد تلك الدلالات، حينما نعرف ان العشائر، التي تمثل ركيزة اساسية ومهمة في المنظومة الاجتماعية للشعب العراقي، كان لها حضور فعال في ساحة التحرير، سبقه دورها المحوري والحاسم في وضع حد لمظاهر العنف والفوضى وانتهاك النظام والقانون في ذي قار والنجف، ولم تأت من فراغ اشادات المرجعية الدينية بالعشائر في خطبة صلاة الجمعة الاخيرة عبر الصحن الحسيني الشريف. فموجة أحداث العنف والتخريب والتدمير التي شهدتها محافظتا النجف الأشرف وذي قار ومحافظات أخرى خلال الآونة الأخيرة، لم يكن ممكنا النظر اليها وكأنها ممارسات وسلوكيات عفوية، تنسجم مع اطر القانون، وضوابط النظام، والقيم الدينية والاجتماعية المتعارف عليها، بل ان ما حصل من اعتداءات وتجاوزات فاضحة، لا يمت بصلة الى الصورة المشرقة التي وصفت بها المرجعية الدينية الحركة الاحتجاجية الاصلاحية، ذات المطالب المشروعة والواقعية والمنطقية. فبينما كانت المجاميع المنفلتة والمخربة تستخدم كل الأساليب والوسائل لالحاق أكبر الأذى والضرر بمؤسسات الدولة والمرافق العامة، وتعمل على سفك الدماء وازهاق الارواح، راح وجهاء وشيوخ وابناء العشائر يتصرفون بحكمة وعقلانية، لاحتواء الازمة وفرز المندسين والمخربين وتمييزهم عن المتظاهرين السلميين، وتوفير الحماية لمؤسسات الدولة والممتلكات العامة والخاصة، من خلال التعاون والتنسيق مع الاجهزة الامنية والعسكرية. ولا شك أنه في كل المراحل التاريخية وعند كل المنعطفات الخطيرة، كان أبناء العشائر حاضرين بقوة، بدءا من مواجهة الاستعمار البريطاني قبل اكثر من مائة عام، مرورا بأحداث ووقائع كثيرة، برز البعض منها واضحًا وجليًا في مواجهة نظام حزب البعث السابق، وفيما بعد مواجهة الجماعات والتنظيمات الارهابية التكفيرية المتمثلة بتنظيمي القاعدة وداعش. واليوم فإن توجيهات المرجعية، وموقف العشائر وحرص عموم العراقيين، كفيلة بدرء الفتنة، وايصال البلاد الى بر الامان وحفظ الانفس والارواح وصيانة الحرمات والمقدسات. في ذات الوقت ينبغي للقوى والكيانات السياسية المتصدية لزمام الامور في كل المفاصل، بعد التوجيهات المتتابعة للمرجعية والحراك الجماهيري السلمي، ان تكون اكثر جدية وحرصا وشعورا بالمسؤولية وتغادر منطق التسويف والتعويق، فلم يعد هناك خيار سوى الانصات للاصوات الداعية الى الاصلاحات، وتحقيق المطالب السلمية المشروعة، ولتدق المسمار الاخير في نعش المخطط التخريبي الخارجي ضد البلاد، الذي أصبح "الجوكر"، يعد العنوان الاكثر تداولًا وارتباطًا به، والذي انعكس بوضوح من خلال أحداث العنف والتخريب والتدمير التي رافقت التظاهرات السلمية، في اطار المحاولات والمساعي المحمومة لحرفها عن اهدافها الحقيقية، وافراغها من مضمونها الصحيح. ولم يكن اختيار ذلك المصطلح من قبل المخططين والمراهنين على العنف والفوضى وسفك الدماء وازهاق الارواح، اعتباطيا، بل انه كان مدروسا بدقة، واريد من وراء استخدامه اطلاق رسائل معينة، وترسيخ انطباعات، وتسويق ايحاءات. وقد يتبدد اللبس ويزول الغموض، حول مصطلح الجوكر ومضمونه، حينما نعرف ان ذلك المصطح مستوحى من عمل فني من قبل صناعة السينما الاميركية، يروج لثقافة القتل والسرقة واستباحة القانون، كما هو دأب مختلف المراكز الفنية والثقافية والفكرية الاميركية التي تعكس بطريقة او بأخرى النهج العدائي الاميركي. ولا شك ان ثمة قضية خطيرة للغاية، لمن يدقق ويتأمل في مجريات الامور، فحينما نجد ان النموذج الاميركي السلبي والسيئ يتحرك على الارض مستعيرا كل السلوكيات والممارسات غير الاخلاقية وغير القانونية من السينما الاميركية، ليسقطها على الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، فمن الطبيعي جدا ان تتوجه اصابع الاتهام الى الولايات المتحدة وحلفائها وأتباعها وادواتها، لا سيما وأن كل ما نسب الى جماعات الجوكر من جرائم لا يلتقي بتاتا مع المطالب المشروعة للحركة الاحتجاجية الاصلاحية، ولا يمكن ان ينسجم مع القيم الاجتماعية والدينية، ومجمل المنظومة الثقافية للشعب العراقي، ناهيك عن كون تلك السلوكيات والممارسات ألحقت الكثير من الاذى والضرر المادي والمعنوي، وكادت ان تدفع الجميع الى اتون فتنة كبيرة، لولا حكمة المرجعية الدينية، ووقفة العشائر المشرفة، وبالتالي قطع الطريق على جماعات الجوكر ومن يقف وراءها ويدعمها ويساندها ويخطط لها.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha