طيب العراقي
ثمة صورة نمطية للقائد في المخيال الشعبي الشرقي، فالقائد يجب ان يكون مفتول العضلات بقامة ممدودة، بشارب أسود معقوف، ولحية سوداء دائما حتى لو بلغ التسعين، يحمل القائد في جنبه سيفا مرصعا غمده بالجواهر، عيونه كعيون الصقر، يحيطه رجال مسلحين شجعان، ويجب أن يكونوا دائما أقصر منه..تاريخه مليء بإنتصارات الدماء، فرسه طهماء بسرج مزركش يخيوط الذهب، صدرها عريض تنسج حول هذه الفرس حكايات أسطورية..
تضاف لإسم القائد التأريخي، سلسة طويلة من الألقاب، ويخترع له نسب، غالبا ما يربطه بأسماء كان لها دور في التاريخ الغابر..
تميزت الثقافة العربية عن غيرها من الثقافات بكثرة الألقاب، التي تطلقها على الشعراء العرب، وتقديرا لتجربتهم، لكنه تكريم ينطوي على تكريس حالة التفرد، التي تختزل الثقافة في هؤلاء الشعراء، برغم أن بعضهم لا يصمد نتاجه أمام نقد أدبي رصين..حافظ إبراهيم شاعر النيل، وإيليا أبو ماضي شاعر المهجر، وعبدالكريم الكرمي المكنى بأبي سلمى زيتونة فلسطين، وخليل مطران شاعر القطرين، وشفيق جبري شاعر الشام، وأختير أحمد شوقي المصري زعيما أوحدا لإمارة الشعر، مع أن الجواهري العراقي افضل منه بكثير.
هذه الصورة ما تزال حية في وجدان شعبنا، وأنعكست أيضا في ملامح وتصرفات، الساعين الى القيادة في زمننا الرديء هذا، ويبدو أن ثمة حاجة شعبية دائمة، كانت تخترع ثقافة الزعيم أو القائد الأوحد، لتتحول الى تكريس لظاهرة القائد الضرورة، التي ساهمت في صناعة شخصية الدكتاتور الفحل المهاب، وشكلت التربة الصالحة لنموّ هذه الظاهرة، وتقبلها والخضوع لسطوتها، بوصفها حاجة يبحث عنها المجتمع.
نوعية ومواصفات القائد الضرورة تغيرت اليوم، فهو لم يعد طويلا عريض المنكبين، يخوض الحروب الطويلة، يمتلك كما يدعي أسلحة سرية قادرة على إحداث دمار شامل، يتدلى بجانبه مسدس برونك 13، حذاءه أحمر لماع دوما حتى أثناء المعركة..وإذا قال شيئا يقوله العراق..!
إن الفصل بين ظاهرة الدكتاتور، القائد الأوحد والزعيم الخالد، الذي يتم تضخيم صورته في المخيال الشعبي، والدور الذي لعبته ثقفتنا الشعبية على هذا المستوى، هو الذي جعل القراءة الخاطئة، تتهم الجماهير أو المجتمع بالمسؤولية، عن بروز ظاهرة الزعيم القائد، الذي يختصر جميع المعاني الكبيرة في شخصيته، مع أن هكذا نوع من قيادات، تتصف بالقسوة المفرطة والإجرام.
القائد الضرورة اليوم؛ بنفس المواصفات تقريبا، ولكن بملامح مختلفة تجاري الواقع وتحاكي روح العصر، فما دام هنالك نزوع شعبي نحو الدين والتدين، فإن القائد الضرورة هو حارس الدين والشريعة وبطلها المغوار، ويجب ان يكون بعمة سوداء، لأن السوداء اقرب الى موارد الشريعة من البيضاء، وفقا للمعتقد الشعبي..ويتعين أن يكون سلسلا لأسرة باذخة الأثر في التراث الديني ولفقهي، ولا يهم إن كان هو يحمل من هذا التراث شيئا أم لا، المهم أن يكون منتسبا لأسرة عريقة في العطاء الفقهي، وان يكون كلامه كحد السيف، وإذا قال شيئا قاله العراق..!
إنه القائد الفحل، الذي لا تنزل كلمته الى الأرض، وإذا نزلت فإنها تُنزل معها الجميع وتلقيهم الى الحظيظ..
في مخيالنا الشعبي إرتبط مفهوم القيادة بمفهوم القوة، وليس بمفاهيم العلم والمعرفة والإدراك والتأثير الإيجابي بالجماهير، والقوة ارتبطت هي الأخرى بمفهوم الفحولة؛ الذي ينطوي على دلالات جنسية واضحة، والذي ما يزال يمجد القوة ويعلي من قيمتها، حتى أصبحنا محكومين بالحاجة لهذا القائد الرمز، دون أن نعي أننا بذلك كنا نصنع طغاتنا ومستبدينا.
لهذا لا بدّ كشرط موضوعي للخلاص من هذا الواقع، أن نعمل على تحرير ثقافتنا من هذا الموروث الفحولي، الذي سوف ينعكس على صورة الحاكم في المخيال العام، وعلى علاقتنا به، وينهي تاريخا طويلا، من تمجيد الشخصية الفردية، التي اختزلت جميع صفات الكمال فيها.
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha