طيب العراقي
مع أننا حديثي العهد بممارسة العمل الديمقراطي وفقا لنماذجه الحديثة، وإن كنا نمتلك أرثا ديمقراطيا يمتد سحيقا في التاريخ، ربما الى أول مجلس نواب عرفته البشرية، حيث تأسس أول "كاروم" هنا في بابل، والكاروم هو الأسم البابلي لمجلس ممثلي الشعب...لكننا حالنا حال بقية الشعوب نخضع لذات المؤثرات التي تؤثر في سير العمل التمثيلي الديمقراطي...
ففي مختلف الأنظمة الديمقراطية العالمية ثمة فتور ملحوظ في التعامل الشعبي مع الاستحقاقات السياسية الرئاسية والنيابية والمحلية..ومعظم الأسباب تعود الى أن الديمقراطية قدمت كل ما عندها، ولم يعد بأمكانها تقديم أفضل مما قدمته...
حصل ذلك لجملة عوامل من بينها طوفان العولمة، والإخلال بالتوازنات المجتمعية بعد عشر سنوات من الممارسة الديمقراطية، وصلنا الى مستوى يمكننا أن نؤشر فيه عجزا متزايدا من قبل الهيئات والمؤسسات الحكومية عن تلبية التطلعات الشعبية، وأدى ذلك الى شيوع النزعة الأنكفائية لدى المواطنين عن المشاركة السياسية، جراء تشكل طبقة جديدة في المجتمع، أصطلح على تسميتها بالطبقة السياسية، ولا تعتقدون بأن هذه الطبقة خارج توصيفات النظام الطبقي المعروف، فهي تندرج ضمن الفئات الطفيلية في النشاط الأقتصادي، واذا شئنا الدقة فإن المنتمين الى هذه الطبقة، يندرجون تحت فئة سماسرة الصفقات من خلال مواقعهم السياسية، بل أن "جُلهم" دخل العمل السياسي بغية إكمال متطلبات "البزنس"...
ونتيجة لصراعات "البزنس" تسببت هذه الطبقة بكوارث كبرى بأشعالها فتائل التجاذبات السياسية الطاحنة، وعلى الصعيد الأجتماعي كان من بين أكثر نتائجها سوءا تدمير للبنية المجتمعية، وإخلال بالتوازن الأقتصادي، وتراجع قيم المساواة والعدالة وتطبيقاتها..
إن مشاركة 8400 عراقي في الأنتخابات المحلية كمرشحين ليس أمرا مفرحا، ولا يقدم دليلا على صحة منهجنا السياسي، بل يقدم دليلا على أن ديمقراطيتنا منفلتة الى أبعد حد من جهة، كما يوضح أن كثرة عدد المتقدمين تنافسيا لنيل مقاعد المجالس المحلية، يعني أن هذه المقاعد تقدم مزايا كبيرة سواء للمترشحين أو للجهات التي تقف ورائهم..
وتعالوا معنا نقرأها مجددا ولكن جيدا، صحيح أن من حق أي مواطن أن يترشح في الأنتخابات، ما دام يمتلك المواصفات التي وضعتها مفوضية الأنتخابات في مسطرتها، لكن ما الذي غير هذا يعنيه هذا الطوفان البشري من المتنافسين؟ سيما وهم يعلمون أنهم وعلى الرغم من كثرة ما يعدون به، إلا أنهم شبه عاجزين عن تغيير مؤثر..وما الذي يؤشره ولادة عشرات الكيانات السياسية قبيل أيام الأنتخابات بقليل ثم ى تلبث أن تتبخر وكأنها ما كانت ولم تكن؟!
وأذا كنا نريد أن ننطلق من ماضينا ومن تراثنا في صياغة نظرية للقيادة، يتعين أن نسعى الى النموذج التفويضي في القيادة، فهذا النموذج المبني أساسا على نظرية الاستخلاف التي تمثل جوهر فهم الإسلام لكيفية الحكم، والمنطلقة من أن الحاكمية لله تعالى وأن البشر مستخلفين في تسيير الموارد البشرية والطبيعية التي "إورثها" الله لهم: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"، فلا بد لنا من ملاحظة النص التحفيزي الذي تركه فينا رسولنا الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...".
فهذا النص يقودنا الى نوع من توصيف المسؤولية المفضية الى بناء نمط قيادي قائم على التفويض وعلى حسن الرعاية، فلا تفويض بلا ضمان رعاية حسنة، لتصبح المسؤولية عقدا أخلاقيا منوطا بحسن الأداء...في هذا العقد : من يثبت بالتجربة أن أداءه حسن يستحق التفويض، ومن يقدم نموذجا صالحا بالأداء الحسن يسحب منه التفويض ولا تكرر تجربة التفويض معه، إذ أنه فقد فرصته بسوء عمله ورداءة أداءه...
ولعلنا لا نأتي بجديد أذا توصلنا الى أن تفويض المسؤولية وفقا للمقياس الآنف، هو من أرقى التفويضات التي عرفتها البشرية، فلا تاريخ الفرد ولا تدينه، ولا أصله أو نسبه، ولا حتى قناعاته الشخصية، بأمور تكفي لإناطة المسؤولية به..نعم إنها عناصر في المشهد الذي يتيح للمكلفين "بكسر اللام" توفير قاعدة بيانات تؤمن لهم قناعات سليمة، تؤدي بهم الى تكليف المكلفين "بفتح اللام" بالمسؤوليات التي يبغونها منهم، لكن في نهاية الأمر يبقى حسن الأداء هو المعيار النهائي في تفويض المسؤولية..!
فصورة مرشح الأنتخابات واقفا أو جالسا، مبتسما أو عبوسا، ببدلة أم بقميص، بخارطة العراق أم بعلمه، بربطة عنق أم بدونها، مع "الأفندي" رئيس كتلته أو بدونها، كلها من متطلبات "مكياج" تجميل صورته في عينه هو لا في عيون الناخبين، وغالبا ما تقدم هذه الدعاية الجدرانية نتائج عكسية، فقد أزدحم مجال الرؤية أمام المتلقي ولم يعد يرى غير ألوان، أما التفاصيل فلا يهتم بها..
الصحيح ننظر في ما قدموه، أو ما قدمه التنظيم السياسي او التوليفة العقائدية التي ينتمون اليها، ونضعها في الميزان.. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ...وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ....!
وأقرأوا توبيخ الباري عز وجل لمن خفت موازينهم: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ*....!
https://telegram.me/buratha