جاسم الصافي
كل فكر انساني يقاس بمنجزه او بمقدار ما قدم من فائدة للبشرية جمعاء , مع مراعات ان صعوبة المحنه لهذا او ذاك الفكر يكمن في مقدار حجم الحاكميات البيئية والسياسية والمجتمعية , اذ انها تأتي على هذا الفكر فتأكل منه التسامح الانساني وتدعوه للانطواء على ذاته وتفرده في معرفة الحقيقة دون الاخرين في نرجسية مقيته تدعو للحزبية والتطرف , وهذا الانعطاف موجود في اغلب الايديولوجيات , بسبب حاجتها الملحة لتحصين نفسها من قسوة الهجمات التزاحمية والتنافسية والتشرذم الفكري اثناء عملية صيرورتها التنظيرية والتطبيقية , لذا تتقوقع مبادئها على السلف وما هو مقدس لصون اصولها التكوينية ولملمة ما يمكن الابقاء منها على مدى طول صراعاتها.
هذا الامر يحدث للجميع على حد سواء أكان فكرا دينيا ام دنيويا , اسلاميا ام ماركسيا , قوميا ام مذهبيا , فالكل يغني على ليلاه , ومن هذا المنطلق يتكون لدينا سؤال ملح وهو , ما الذي قدمها السيد الشهيد الصدر وهل كان نتاجه يؤمن في العمل السياسي الى جنب العمل الفقهي ؟ ام ان الاخرين خدعونا وخانوا فكر السيد الشهيد من اجل مطامع السلطة والقيادة وتلفيق العمل السياسي والتنظيمي على المولى الشهيد , وخصوصا اننا نعلم ان الشهيد لم يبقى في التنظيم الحزبي سوى سنتين من صيف 1958 الى صيف عام 1960.
للجواب عن ما تقدم يحتاج الامر الى شيء من التفصيل والغور في محاور اهمها محنة السيد الفكرية وامتحانه الشرعي , وهذا لا يعني ان هناك تناقض ما بين الشرع والفكر بقدر ما هو مجاورة ما بين النص الالهي وتطبيقاته وهذه المشكلة موجودة في كل فكر يزحف ما بين التنظير والتطبيق .
فلا يخفى على احد من ان السيد الشهيد اقترن اسمه الكريم بالجهاد والثورة وبالفكر والفقه وكان محتواه الوطنية والشمولية والايمان والتقوى لذا كان نبع للفلسفة وعلم للكلام والمنطق والاصول والتفسير والحديث وعلوم اللغة والاقتصاد والرياضيات , اضافة الى السياسة فلم كان بريق السياسة يسطع ويخفي بريق باقي علومه وافكاره , ويحجب المعية الشهيد عن كل ما هو ابعد من السياسة , ولم ادلج فكره الشريف وجعل تمذهب دعوي.
في حين ان نداءاته الشريفة لم تستثني احد نتذكر جميعا ان العمل الجهادي لكل المعارضين في عصره كانوا يستمدون ويستنيرون بفكره الشريف , كونه لم يستثني احد او ينتمي لاحد!
ومثال ذلك نص من خطاباته الموجة للجميع بلا استثناء اذ يقول قد ( يا شعبي العراقي العزيز! أيّها الشّعب العظيم ! إنّي أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهاديّة ، بكلّ فئاتك وطوائفك : بعربكَ وأكرادك ، بسنّتك وشيعتك ، لأنّ المحنة لا تخصّ مذهباً دون آخر ، ولا قوميّة دون أخرى ، وكما أنّ المحنة هي محنة كلّ الشعب العراقي ، فيجب أن يكون الموقف الجهاديّ والرّدّ البطوليّ والتلاحم النضالي هو واقع كلّ الشعب العراقي ) وهذا نص اخر للشهيد الصدر ( يا إخواني وأبنائي من أبناء الموصل والبصرة .. من أبناء بغداد وكربلاء والنجف ... من أبناء سامرّاء والكاظميّة .. من أبناء العمارة والكوت والسليمانيّة .. من أبناء العراق في كلّ مكان ، إنّي أعاهدكم بأنّي لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً ، وأنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل .. فلتتوحّد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام ، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلّطة ، وبناء عراق حرّ كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان ، ويشعر فيه المواطنون جميعاً - على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم - بأنّهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم ...
هذه مقتطفات لا على التعين من بعض مخاطبات الشهيد لكافة ابناء الشعب العراقي , ونحن هنا لا ننكر العمل السياسي للسيد الشهيد لا في بداياته حين تكون حزبا سياسيا ولا في اؤخر حياته الشريفة حين اصدر كراريس «الإسلام يقود الحياة»، و«دستور الجمهورية الإسلامية» و«خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» وما كتبه من شرح أسس «الدولة الإسلامية» لكن هناك وقفات وتقلبات في تفاصيل عمله السياسي وخصوصا فتوى تحريم التحزب وهو القراءة المستقبلية لما نحياه اليوم من فئوية حزبية وولاءات لأشخاص وافكر دخيلة ومتطرفة شرذمت الوطنية وفتت الايمان بالهوية , كما ان هناك مساحة اوسع في فكره لما هو اشمل واكمل من ادلجة انية وزائلة , فهو حلقة فلسفية في الفكر العالمي جاور ما بين الاشتراكية والرأسمالية اي ما بين قطبين متناحرين ومتنافرين اللذان رمما من قبحيهما في الفترات المتأخرة بعد ان واجها صعوبات التطبيق التي بسببها انهار الاتحاد السوفيتي واستثمرت الرأسمالية هذا الانهيار لترميم زيف فكرها المتشدد في الحياة الاقتصاد والمالية , وهذا ما جاء في مؤلفي السيد الشهيد ( اقتصادنا وفلسفتنا ) واقصد الوسطية التي جاء لينادي بها الاسلام من قبل واطفئ نورها المتشددون , لهذا عمدت ان يكون مقالي هذا دعوة لتسليط الضوء على فكر ووطنية وايمان ذلك الفيلسوف , والأفكار والمواقف التي تبناها الشهيد ونحن نمر في ذكراه العطرة , وان نبتعد عن ما اوله المتحزبون والسياسيون ابتغاء نيل السلطة , فهذا ديدنهم في تسخر المعرفة لاستعباد الناس على مر التاريخ , وعلى اعتبار ان واجبنا الأخلاقي والتاريخي يحتم علينا ان نعيد هويتنا الوطنية من خلال رجالها واعلامها الافذاذ
https://telegram.me/buratha