باقر الجبوري
أيامنا الجميلة التي عشناها في زمن المحبة والامان والرفاهية في المعبود الاوحد والحزب الاوحد والمذهب الاوحد والقائد الواحد مضافا لهم الاعداء والحروب التي لن تستطيع كل اصابع يديك ورجليك ان تعدها...
من الذكريات الجميلة...
كيف كان العراقي أبو الخير ياكل من علف الحيوانات الذي يقدم له بالحصة التموينة على أنه طحين بحجة حاجة المواطن للبروتينات والنشويات والكربوهيدات ففكر البعض أن يضيفوا للطحين نوى (فصم) التمر المطحون وعرانيص الذرة المخروطة ...
كان العراقي في ذلك الزمن الجميل وهو ابو الخير يضطر لبيع باب أو شباك من بيته او أي سلعة اخرى في مقابل أن يشتري كيلوا من العظم الخالي من اللحم ليصنع منها شريدا من الخبز اليابس او لشراء دجاجة وطبخها كما يطبخ الفسيفس ((العلو)) بحضور عائلي مكثف وكأنهم في ليلة عيد الميلاد ((الكرسمس)) كما يفعل الاخوة المسيح في أوربا وأمريكا.
ذكريات جميلة أتذكر كيف كان فيها البعض منا يشتري البيض ليخلط معه كمية من الطحين حتى يكفي جميع افراد العائلة أما الفاصوليا وما ادراك ما الفاصوليا واختها الباقلاء فكنا نشتريها بأكياس لاتزيد عن طبخة واحد مع اكياس صغيرة من المعجون المعبئة بمقدار ملعقة احدة فقط وحسب الوزن.
الكثير من الناس وقتها باعوا الثلاجات او رموها في الشارع حينما تتعطل لعدم القدرة على جمع المال ليصلحها فاستبدلها بالفلينة!
ذاكرتي تأخذني الى زمان حولنا فيه البطانية العسكرية الى قمصلة عند الخياط بقدرة قادر وبتكلفة 15 دينار في الوقت الذي كان فيه أخوتنا التكارته يلبسون القماصل الجلدية ((الرئاسية)) التي وصل سعرها الى 200 دينار لنواسي بذلك قائدنا الضرورة الذي أقسم كاذبا انه لن يشتري اي ملابس جديد وجاهزة خلال فترة الحصار...
فعلا فلم يشتري ملابس جاهزة...لان الخياط الخاص به كان يخيط له البدلات وبأفضل انواع الاقمشة داخل القصر الجمهوري...
كانت أيام جميلة ...
اتذكر فيها كيف كنا نخيط الاحذية بأنفسنا او نلصقها بصمغ الاميري لاننا لانملك حتى أجرة القندرجي (أجلكم الله))
واتذكر كيف كنا نعمل الحلويات بالبيت فنضع قطعا صغيرة من الحلقوم بين قطعتين من البسكويت لنعمل بها (توتو) بالنسخة والطريقة العراقية
ذكريات جميلة كان فيها الموز من المواد المحرمة دوليا
وأما البيبسي فلانعرف طعمه الا من خلال العلكة المطعمة بنكهة الكولا او من خلال شرائه من الباعة المتجولين بعد خلطه مع الصودا واضافة ما نسبته ثلثي القدح من قطع الثلج تحت عنوان ((الفساد الصناعي))
كانت ايام جميلة فعلا ...
فالراتب الشهري الذي يستلمه الموضف الحكومي كان حنينا عليه لدرجة انه لن يزعجه في أثقال جيبه لأكثر من ثلاث ايام ليشعر بعدها بالراحة والخفة
في حينها كنت استلم راتب مقداره 3458 دينار في الوقت الذي كان سعر كيلوا الطحين فيه 1250 دينار..
بمعنى ان راتبي كان عبارة عن (كيلوين ونص من الطحين)
أما راتب والدي رحمه الله فبعد 30 سنة من الخدمة لم يكن راتبه التقاعدي يكفي لشراء اكثر من (كلوصين) من السكائر المضروبة والمعفنة إلا بعد أن يضيف على عليها 500 دينار كنا نجمعها له أنا وأخوتي في بداية كل شهر.
كم كانت اياما جميلة ونحن نجتمع فيها حول مائدة الطعام لنأكل صينية الثريد الدسم التي كانت تصنعها لنا أمي من تشريب العظام الخالي من اللحم او سيقان الدجاج حينها كان تعريفنا للحم (أنه مادة لايمكن رؤيتها بالعين المجردة في مرق تشريب العظام ولن تراها حتى لو استخدمت المجه )
لنجلس بعدها متكئيين على الارائك لهظم هذه الوجبة بشرب الشاي الخالي من السكر بعد نفاذ الكمية التي لاتكفي لاكثر من أسبوع واحد واتذكر كيف كنا حينها نضع قطع الحامض حلو ((مصقول)) في إستكان الشاي للتقليل من المرورة..
كنا حينها نعيش بامان حقيقي ولانعرف معنى الموت ابدا مع اننا كنا نرى فرق الاعدامات والسيطرات التي تمنع حتى لصق او كتابة عبارة ((اللهم صل على محمد وال محمد)) على الزجاج الخلفي للسيارات بإعتبارها لفظة طائفية وكيف كانت السجون تغص بالابرياء بحجة أقامة مأتم اللطم او التردد على الحسينيات أو حتى لكون أحد الاقرباء من الدرجة السابعة أو أبعد من ذلك قد كان متهما بالعمل ضد النظام او حتى لانك تحلم مجرد حلم انك تعادي النظام او تستهزيء به...
أيام جميلة وأمان مستتب....
مع اننا كنا نحارب الاكراد منذ الستينات وشاركنا في الحروب العربية كلها فنثرنا دماء أبنائنا في كل بقاع الامة العربية دفاعا عن القومية والامة التي تتهمنا للآن باننا من الفرس المجوس وعملاء لايران . حتى مع أننا حاربنا ايران فيها لثمان سنوات ومع ذلك فلم تمحى عنا هذه التهمة
ثم دخلنا الى الكويت ثم خرجنا منها مسرعين ثم حاربنا امريكا وحلفائها في 1991 و 1993 و 1997 و 2000 و 2003 وكل تلك المعارك لم تكلفنا الا عدة ملايين من الشباب العاطل عن العمل والذين تم استبدالهم بالبعد العربي القومي المصري والسوداني حتى وصلوا للعمل في مقبرة النجف كمغسلي موتى عند الحاج ابو اصيبع
وهل منا من ينسى تلك النكتة حينما تسأل المصري عن شغله ليجيبك فورا (( بتاع كلوا يحاج)
كانت ايام جميلة لدرجة ان مقبرة النجف لم تعد تتسع للشهداء فافتتح النظام مقبرة اخرى واخرى واخرى
كانت النظام فيها قويا مقتدرا وعادلا ليوزع قرابين الموت حينها بين كل افراد المجتمع وبدون خوف او أي وازع أخلاقي...
أحدى القصص عن العدالة ((أن النظام أعدم 250 شابا من طلبة الكليات وكلهم يحمل الاسم مصطفى؛ والسبب ... اعتراف احد المطلوبين تحت التعذيب على زميل له في تنظيم سري ضد النظام أسمه مصطفى وهو طالب في احد الجامعات
((المشكلة بسيطة)) فلقد اعترف الرجل ان له شريك وأسمه مصطفى دون ذكر أسمه الثلاثي أو عنوانه الكامل أو كليته التي يدرس فيها ثم مات بعدها من شدة الحنان (التعذيب) الذي قدموه له في الامن العام ليقوموا بإلقاء القبض على كل طالب جامعي في المحافظات الجنوبية يحمل الاسم مصطفى وليتم اعدامه على جناح السرعة
لم تكن تواجه الامن العام حينها أي مشكلة ففتوى السيد القائد كانت صريحة حينما خرج يتكلم وسط أجتماع للبعثية فقال ((مئة او مئتين او الفين او حتى عشرة الاف أعدموهم ولايرف الكم حاجب)) ولاقامة الحق والعدل البعثي لن يعني لهم أعدام ((25 )) شاب أي شيء امام اقامة العدالة))
كانت ايام جميلة ... مع انك لن تتمكن فيها من رؤية أي محافظ شيعي في المحافظات الجنوبية وكذلك مديريات الامن والمخابرات والاستخبارات والوزارت المهمة كالدفاع والداخلية والخارجية وغيرها من الوزارات
أيام جميلة كانت جريمة حيازة الكتاب الديني الشيعي الفقهي او التأريخي وحتى كتب الادعية فيها تعني الاعدام مع ان شارع المتنبي وقتها كان يغص بكتب أبن تيمية وعبد الوهاب وحتى بكتب الاديان الاخرى وكذلك الكتب السياسية التي تتحدث عن الشيوعية والعلمانية وغيرها من الافكار.
فعلا... كانت اياما جميلة حقا حيث كان لعدي صدام الحق فيها بانتخاب اي فتاة تعجبه وهي تمشي في الشارع ليأخذها ثم يغتصبها شائت أو أبت ذلك ... فلم تكن تكفيه بنات الملاهي والراقصات ...
ايام جميلة اكبر مما يتصور الاخرون كان مصداقها قول احدهم نفسه ( محمد جبر من بطن امه ... وللكبر))
للاسف ... كل الحكومات الشيعية المتعاقبة بعد السقوط لم تستطع ان تنشيء محافظة خاصة للبعثية او لمن يحن لتلك الايام ليعيشوا هذه الحياة بعزة ورفاهية ونعيم واحترام وامان وليطبق فيهم كل قوانين ذلك الزمن الجميل وليحرموا حتى من الموبايل والستلايت وغيرها ...
مع الاسف ... أيام لن تعود
https://telegram.me/buratha