عادل الجبوري
كان شهيد المحراب آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم قبل وقت قصير من استشهاده في الاول من شهر رجب قبل ستة عشر عاما يقول في خطبة صلاة الجمعة الرابعة عشرة والأخيرة داخل الحرم العلوي الشريف بمحافظة النجف الاشرف، وإمام الآلاف من المصلين "إن قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني تتحمل مسؤولية انعدام الأمن والاعتداءات التي تحصل على مراجع وعلماء الدين والأماكن المقدسة"، وكان يتناول بالشرح والتحليل ملابسات محاولة اغتيال المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم التي وقعت قبل بضعة أيام من ذلك اليوم.
هذه القراءة الدقيقة للشهيد الحكيم حول الواقع القائم عبرت عن نفسها بكل وضوح بعد اقل من ساعة عندما خرج من الحرم العلوي الشريف محاطا باعداد كبيرة من المصلين، وإذا بيد الغدر الآثمة تمتد إليه والى العشرات من الأبرياء . وقد لا نكون بحاجة إلى تكرار التساؤل التقليدي المعروف للجميع وهو .. من المسؤول عن المأساة التي حصلت في مدينة النجف الاشرف في ظهر يوم الجمعة، الأول من شهر رجب، التاسع والعشرين من شهر آب/ أغسطس من عام 2003، وتسببت باستشهاد السيد الحكيم وعشرات المؤمنين، وذلك لان السيد الشهيد اسهب في الإجابة على ذلك التساؤل أكثر من مرة ، ولم يعد هناك أي غموض يحيط به .
أما لماذا نقول ان قوات الاحتلال المتواجدة في العراق، وفيما بعد القوات متعددة الجنسيات هي المسؤولة عن حفظ أرواح الناس في هذا البلد وممتلكاتهم ، وحفظ حرمة وقدسية أماكن العبادة وقدسية علماء الدين والمراجع الكبار ، وذلك لان قيادات هذه القوات أعلنت منذ وقت مبكر أنها ستتولى كل زمام الأمور، وستعالج كل السلبيات والأخطاء وتؤمن وتوفر كل مطاليب أبناء المجتمع واحتياجاتهم ، وتعيد إليهم حقوقهم المهضومة من قبل نظام صدام المنهار، سواء كانت تلك الحقوق مادية أو معنوية.
وقد أبدت قوات الاحتلال - أو بتعبير أدق قياداتها - رفضا لمشاركة أي طرف معها لانجاز هذه المهام المعقدة والصعبة والخطيرة ، لا من العراقيين ولا من غير العراقيين ، وحتى الجزء القليل من القبول الذي كانت تبديه في هذا الشأن كان يقترن مع شرط العمل تحت مظلتها ووفقا لتوجيهاتها وأوامرها .
ولكن يوما بعد يوما كان يتضح خطأ هذا المنهج ، خصوصا وان الاميركيين والبريطانيين كانوا يحرصون على حياة جنودهم وضباطهم ومعداتهم العسكرية في العراق بصورة اكبر بكثير من حرصهم على أرواح وممتلكات ومصالح العراقيين ، وللأسف فان الدعوات المستمرة التي كان يطلقها الكثير من العراقيين، وفي مقدمتهم الشهيد آية الله الحكيم إلى القوات الأميركية والبريطانية بالسماح للعراقيين بلعب دور في ترتيب أوضاع بلدهم ، للأسف لم تجد اذانا صاغية.
وكان نتيجة ذلك هو تفاقم المشكلات الأمنية، رغم ان حالة الفوضى العامة انحسرت نوعا ما ، وفضلا عن المشكلات الأمنية فأن الجانب التخريبي فيما يتعلق بالخدمات العامة بقي يشكل هاجسا مقلقا لمعظم العراقيين .
ولعل عملية تفجير السفارة الأردنية ، وتفجير مكتب الأمم المتحدة ومقتل ممثل الأمين العام للمنظمة السيد ديميلو ، ومن ثم محاولة اغتيال المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم ، وبعدها بأيام قلائل الحادثة المفجعة المتمثلة باغتيال آية الله السيد محمد باقر الحكيم والعشرات من الأبرياء في صيف عام 2003، مثل ادلة دامغة على خطأ المنهج والاسلوب.
كل ذلك إذا كان يعبر عن شيء فأنه في واقع الأمر كان يعبر عن وجود خلل كبير وفراغ امني فاضح نشأ بعد سقوط نظام صدام ، واستمر بسبب المنهج الخاطئ الذي حاولت الولايات المتحدة الأميركية فرضه كواقع قائم ، والتي راحت فيما بعد تحاول التنصل من تبعاته بالادعاء انه لم يطلب منها توفير الحماية للشخصيات الدينية والأماكن المقدسة في مدينة النجف الاشرف.
ان عملية اغتيال آية الله السيد الحكيم ، وبالطريقة الوحشية التي جرت فيها وضعت الجميع امام استحقاق كبير جدا ، وحتمت عليهم التوقف طويلا إزاء ما حصل ، لأجل ان لا تتحول إلى ظاهرة يصبح حينئذ من الصعب استئصالها والقضاء عليها . وحينما يلقى اللوم وتحمل المسؤولية على الولايات المتحدة الأميركية، فأن ذلك ينطلق من أسباب وعوامل عديدة من بينها، أنها كانت الطرف الرئيسي الذي يمسك بزمام الأمور في العراق، من خلال الأعداد الكبيرة لقواتها المتواجدة في هذا البلد منذ الحرب التي أدت إلى إسقاط نظام صدام.
وكان من الطبيعي إزاء ذلك ان تبرز ردود فعل واسعة في الولايات المتحدة الأميركية مثلما برزت من أنحاء العالم المختلفة حول عملية الاغتيال البشعة .
وبعض ردود الأفعال تلك مثلت تنديدا شديدا بالعملية باعتبار أنها جاءت ضمن مسلسل الإرهاب العالمي الذي تعهدت الولايات المتحدة بالتصدي له واجتثاثه من الجذور بعدما تعرضت إلى ضربة قاصمة في الحادي عشر من شهر أيلول/ سبتمبر من عام 2001، وقد جاءت التنديدات الأميركية على لسان الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش ووزير خارجيته ووزير دفاعه وآخرين من كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية في ذلك الوقت.
وبعض ردود الأفعال الأميركية جاء على شكل نوع من الاعتراف والإقرار بالعجز الأميركي عن تحقيق الأمن في العراق ، وكذلك الاعتراف والإقرار بأن واشنطن منيت بضربة قاسية جديدة في يوم الجمعة باستشهاد آية الله السيد محمد باقر الحكيم الزعيم الوطني المعتدل - مثلما وصفه خبراء اميركان . وفي حينه قال سياسيون اميركان بعضهم في مواقع صنع القرار ان اعتداء النجف الذي أودى بحياة العشرات من الأشخاص وأصاب المئات غيرهم بجروح بعضها خطيرة ودمر عددا من المباني والبيوت وخلق موجة من الذعر والخوف والغضب لدى الناس، ان هذا الاعتداء كشف مرة أخرى عن الصعوبات التي يواجهها التحالف الأميركي البريطاني في الوفاء بوعوده في إعادة الوضع في العراق إلى طبيعته .
في ذات الوقت فأن من بين هؤلاء من اقر بأن الولايات المتحدة الأميركية بصفتها قوة احتلال للعراق تتحمل مسؤولية توفير الأمن في البلاد التي كانت ـ ومازالت ـ تعيش أوضاعا مضطربة وقلقة جدا.
ولاشك ان الاعتراف الواضح والصريح من قبل الكثيرين في واشنطن بخطأ التعاطي الأميركي مع الملف العراقي، مثلما اكد شهيد المحراب، مثل إقرارا بالمكانة البارزة والمهمة التي كان يحظى بها السيد الشهيد الحكيم ودوره الفاعل والمؤثر في دفع البلد إلى الاستقرار والهدوء بعد عقود من الظلم والتسلط والاستبداد والطغيان.
https://telegram.me/buratha