عادل الجبوري
مر اكثر من شهرين ونصف على تكليف السياسي العراقي المستقل عادل عبد المهدي(76 عاما) بتشكيل الحكومة الجديدة، وفق نتائج ومعطيات الانتخابات البرلمانية العامة التي جرت في الثاني عشر من شهر ايار-مايو الماضي، لكن حتى الان، لم يفلح عبد المهدي في انجاز المهمة بالكامل، رغم ان الاجواء والمناخات الايجابية التي رافقت ظروف التكليف.
لاول وهلة، كان التصور العام هو ان طبيعة الاجواء والمناخات التي رافقت انتخاب رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ومن ثم انتخاب رئيس الجمهورية برهم صالح، يمكن ان تساعد كثيرا في اكمال تشكيل الحكومة الجديدة، وحصولها على ثقة البرلمان بعيدا عن المشاكسات والتحفظات والاعتراضات الكبيرة والكثيرة.
وكان التصور العام، هو ان دعم واسناد وتأييد الشخصيات والقوى السياسية المؤثرة والفاعلة والاساسية، من شأنه ان يجعل الامور تسير بأنسيابية ومرونة، وامكانية معالجة واحتواء الاشكاليات والملاحظات التي تثار من هذا الطرف او ذاك، وهي اشكاليات وملاحظات، بدا انها لاترتبط بالمباديء والخطوط العامة، بقدر تمحورها حول طبيعة الحصص في اطار المساحات البرلمانية، وطريقة توزيع الحقائب الوزارية، وهوية وخصائص من يشغلونها.
وكان التصور العام ايضا، هو ان الانسجام والتفاهم بين كل من برهم صالح وعادل عبد المهدي، سيكون عاملا اساسيا وجوهريا في تفعيل وتسريع تشريع قوانين مهمة لها مساس بمصالح الناس واوضاعهم الحياتية الاقتصادية والامنية، لاسيما اذا اتسع ذلك الانسجام وامتد ليشمل رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وذلك التصور مبني على حقيقة، ان الظروف والاوضاع التي جاءا فيها، تختلف الى حد كبير عما كان عليه الحال قبل اكثر من اربعة اعوام، فالجزء الاعظم من التحديات والمخاطر الامنية قد زال وانتهى، بأنحسار وتلاشي تنظيم داعش الارهابي الى حد كبير، الى جانب ذلك فأن الانتعاش المالي بفضل الارتفاع الكبير في اسعار النفط، يمكن ان يساعد في اطلاق الكثير من المشاريع والخطط الخدمية، في القطاعات التي تتصدر اولويات واهتمامات مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية العراقية.
وربما كانت هناك تصورات اخرى متفاءلة عن المرحلة السياسية الجديدة في العراق، بشخوصها واستحقاقاتها ومقوماتها وعوامل نجاحها.
بيد ان واقع الحال رسم صورة اخرى، راحت تنحسر فيها نوعا ما مساحات الحماس والتفاؤل، وتطغي عليها مساحات الاحباط والتشاؤم.
فالكتل السياسية التي اعلنت في باديء الامر منحها الحرية الكاملة لعبد المهدي في اختيار اعضاء كابينته، راحت تتدخل وتضغط وتساوم بقوة وبوسائل واساليب مختلفة.
وحملات التسقيط والتشهير السياسي، اخذت تتسع، لتنفتح ملفات لم يكن احد ليلتفت اليها لولا طرح هذا الاسم او ذاك لمنصب وزاري معين، ناهيك عن التنافس والتدافع الكبير بين القوى السياسية ذات ذات اللون الطائفي او القومي الواحد على حصص المكون الوزارية، ليتضح فيما بعد، ان تفكك العناوين الحزبية الطائفية والقومية، وتشكل كتل تضم الوانا مختلفة، ذات طابع وطني في ظاهر الامر، لم يعالج الاشكاليات والعقد السابقة، ان لم يكن قد فاقمها، وقلل من امكانيات وفرص التفاهمات المكوناتية الداخلية، ولعل هذا هو السبب اليوم وراء عدم حسم مرشحي وزارتي الدفاع والداخلية وكذلك العدل.
وفي خضم ذلك، فأن الحديث عن صفقات بيع وشراء المناصب بمبالغ طائلة، شغلت حيزا كبيرا من اهتمامات وسائل الاعلام والمنابر السياسية واوساط الرأي العام العراقي.
وفي الوقت الذي لم يتمكن احد من اثبات وجود مثل تلك الصفقات، فأن الجهات المعنية، وتحديدا رئيس الوزراء لم يفلح في دحضها بالحجج المقنعة، وهذا ما يؤخذ عليه، الى جانب القول بأنه القى الكرة في ملعب الكيانات السياسية المتصارعة وفي ملعب مجلس النواب، في سياق اشارات واضحة وصريحة منه، الى ان عدم تسمية عدد من الوزراء ليس بالمشكلة الكبيرة، خصوصا وان وزارات مهمة بقيت في مراحل سابقة شاغرة لوقت طويل.
وللانصاف، فأن عبد المهدي يمتلك عقلية متميزة، ولديه افكار واطروحات وتصورات واقعية وعملية لمعالجة المشاكل واالازمات السياسية والامنية والاقتصادية التي يعانيها العراق منذ بضعة اعوام-ان لم يكن منذ عدة عقود-وهو من خلال عشرات المقالات التي كتبها طيلة اعوام عديدة، تناول مختلف القضايا والملفات، واشر الى الكثير من نقاط القوة والضعف، وشخص مواطن القصور والخلل في الهيكل الحكومي، ومنظومة الدولة على وجه العموم، والكيان الاجتماعي، وحدد مسارات الحل والعلاج.
وغالبا ما كان يكتبه عبد المهدي، يحظى بأهتمام ومتابعة نخب سياسية وفكرية وثقافية واجتماعية مختلفة، ولم تكن هناك محددات وقيود امام الرجل وهو يكتب ويتحدث ويناقش، لاسيما وانه كان في معظم الوقت خارج نطاق المواقع الرسمية والمسؤوليات الحكومية.
والان، بعد ان تصدى عبد المهدي للموقع التنفيذي الاول في العراق، مطلوب منه ان يترجم ما كتبه الى اجراءات عملية تنعكس على حياة الناس وامنهم ورفاهيتهم، وتنعكس على مختلف مفاصل الدولة والمجتمع، وخلاف ذلك، فأن المواطن العراقي سوف يكتشف لاحقا، ان ما حصل ليس سوى تغييرا في الاسماء والمسميات والعناوين لا اكثر ولا اقل.
ما هو مطلوب من عبد المهدي، ان يفكك منظومات الفساد في مفاصل الدولة، ويوقف تمددها واستنزافها وتبديدها لخيرات وموارد البلاد، ومطلوب منه ان يضع حدا للترهل الحكومي بدءا من اعلى واقرب المستويات اليه الى ادناها، وما مطلوب منه، ان يحدث نقلة كبيرة ونوعية وسريعة في القطاعات الخدمية الاساسية، كالماء والكهرباء والصحة والاسكان والتعليم، وان يباشر بخطط ومشاريع ناهضة في قطاعات الزراعة والصناعة والامن، وان يصحح المسارات الخاطئة في سياسات العراق الخارجية، بما يضمن عدم اقحامه في اتون الصراعات والنزاعات الاقليمية والدولية، بالشكل الذي يهدد استقلاله وسيادته ومصالحه، وكذلك تقع على عاتق رئيس الوزراء الجديد، مهمة العمل على اخراج كل القوات الاجنبية من العراق، وهذا مطلب برز مبكرا جدا الى جانب المطاليب والاستحقاقات الاخرى، حينما بدأ بعض اعضاء البرلمان تحركات لجمع تواقيع من اجل اصدار تشريع بهذا الخصوص.
وفي واقع الامر، اثبتت وقائع الشهرين ونصف الشهر المنصرمة، انه من الصعب جدا مغادرة اجواء المصالح والاجندات السياسية الحزبية الضيقة، ومايرتبط منها بصراع وتنافس لايمت بصلة الى الشعارات والادعاءات المطروحة عبر وسائل الاعلام والمنابر السياسية، وان من يتنازل عن شيء، يسعي للتعويض عنه باشياء اخرى، ومن يدعي انه يدعم توجهات رئيس الوزراء، فأنه في الواقع يجابهها بكل ما اوتي من قدرات وامكانيات، مادامت لاتنسجم مع مصالحه وحساباته، سواء ما تعلق منها بأزالة الحواجز الكونكريتية من شوارع العاصمة بغداد واحيائها المختلفة، او توزيع المناصب والمواقع العليا، الوزارية وغير الوزارية، او فتح ملفات الفساد وكشف ابطالها من زعماء احزاب ولجان اقتصادية وموظفين كبار.
يخطأ من يتصور ان المشكلة تكمن اليوم في وزارتي الدفاع والداخلية، فهذه تمثل الجزء الظاهر من كم هائل من المشاكل الغاطسة تحت السطح.
ويخطأ من يتصور ان المنظومات الحزبية التي لاتمل من الكلام عن النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد، يمكن ان تفسح المجال لعبد المهدي ليفعل ما يشاء، لانها تدرك ان ذلك سيعود عليها بالضرر الكبير، ويكشف الكثير من الحقائق والارقام الصادمة والفاضحة.
ولعل واحدة من الحقائق المؤلمة في المشهد السياسي العراقي، تتمثل في رئيس الوزراء العراقي الجديد، لايمكنه مهما فعل، الانعتاق من اجواء ومناخات المحاصصة، التي هي في واقع الحال، تمثل في جانب منها استحقاقات انتخابية، وفي جانب منها عناصر قوة قائمة على الارض، وفي جانب اخر، تعد محصلة لثقافة ومنهج سياسي تشكل بعد الاطاحة بنظام صدام، بفعل ارادات خارجية، تكرس وترسخ بقوة خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة.