عادل الجبوري
ربما كانت اللقطة الاكثر غرابة واثارة في مشهد التظاهرات الاحتجاجية بمحافظة البصرة، هي إحراق القنصلية الايرانية من قبل عناصر مشاركة في التظاهرات، بعد ان احرقت مباني حكومية ومقرات احزاب ومكاتب مراجع ومواقع شركات. شيء طبيعي ومتوقع، ان تتخلل اي تظاهرات او مسيرات احتجاجية ذات صبغة مطلبية، تجاوزات على النظام والقانون، واعمال عنف، وتعدي على الممتلكات العامة، من دون ان يكون ذلك جزءا من اجندات معينة، بل غالبا ما ينظر اليه على انه تعبير عن انفعالات غير منضبطة وخارجة عن السيطرة، لكن في نهاية الامر لابد من العثور ولو على خيط رفيع يربط بين المطاليب والتجاوزات، كأن يحصل تجاوز وتعدي على مؤسسة حكومية ذات وظيفة خدمية معنية، يفترض بعض المتظاهرين انها مقصرة ومتلكئة، ولم تقم بخدمتهم كما ينبغي لها ذلك. وفي تظاهرات البصرة، هاجم عناصر من المتظاهرين مبنى مجلس المحافظة وديوان المحافظة، وهذا قد يكون مبررا اذا تعاطينا بقدر كبير جدا من حسن الظن. وهاجم بعض المتظاهرين مقرات لشركات اجنبية، وهذا هو الاخر قد يكون مبررا، اذا لم نبتعد كثيرا في تحليلاتنا وقراءاتنا بالاتجاه السلبي والمتشائم. وهاجم بعض المتظاهرين مقرات احزاب وقوى سياسية مختلفة، ولعلنا يمكن ان نجد ما يبرر ذلك الامر، في حال افترضنا جدلا ان مطاليب المتظاهرين ومشاكلهم، ترتبط بشكل او باخر بالواقع الحزبي والسياسي العام، وفي المحافظة بشكل خاص. إحراق مبنى مجلس المحافظة وديوان المحافظة، يمكن ان يفهم على انه رسالة موجهة من المتظاهرين الى كبار المسؤولين التنفيذيين والتشريعيين مفادها، "انكم مقصرون وفاسدون ونحن نرفضكم ولانريدكم، لانكم لم تقدموا لنا شيئا بعد ان انتخبناكم". والهجمات على مقرات شركات اجنبية، يمكن ان يفهم منه على انه نوع من التعبير عن رفض اي وجود اجنبي في البلاد، حتى وان كان ذلك الوجود يحمل طابعا اقتصاديا ـ استثماريا، لانه في النهاية لايتعدى كونه غطاء مخابراتيا لاجهزة خارجية. او يمكن ان يفهم من تلك الهجمات والاعتداءات، على انها جاءت على خلفية عدم الايفاء بوعود وتعهدات قطعتها تلك الشركات بالمساهمة في اعمار وتطوير المدن التي تعمل فيها، وتوفير فرص العمل لابنائها. ومهاجمة مقرات الاحزاب واحراقها، قد يندرج ضمن اساليب التعبير عن رفض واسع وكبير للطبقة السياسية الحالية بشتى عناوينها ومسمياتها، بأعتبار انها تتحمل قسطا كبيرا من مسؤولية الواقع المتردي في مختلف المجالات، ليس في البصرة لوحدها وانما في مدن ومناطق عديدة على طول البلاد وعرضها. والتصادم مع القوات والاجهزة الامنية، هو الاخر يمكن ان يحتمل الجدل والنقاش، اذا افترضنا ان هناك استفزازات واجراءات غير مدروسة وانفعالية من قبل بعض عناصر القوات والاجهزة الامنية حيال المتظاهرين. وفي كل الاحوال والظروف، فأن مايجب تثبيته وتأكيده، هو ان كل فعل ينطوي على تعريض حياة الناس للخطر، والممتلكات العامة والخاصة للضرر، يعد تعديا على الامن والنظام والقانون والدستور، وينبغي التصدي له وفق معايير واطر الامن والنظام والقانون والدستور. بيد ان اعتداء مثل الذي حصل على القنصلية الايرانية في محافظة البصرة، يصعب الى حد كبير، تصنيفه ضمن الاعتداءات والتجاوزات المحكومة بظروف انفعالية وحالات غضب لاتخرج عن مساحة حسن النية، لان القنصلية الايرانية ـ او اي مقر تابع لبعثة دبلوماسية اجنبية ـ ليست معنية ولا مسؤولة عن خطأ او تقصير او فساد من ذلك الذي تتحمله مؤسسات الدولة ومسؤوليها. يعني، هل كان مطلوبا من القنصلية الايرانية ان توفر المياه الصالحة للشرب لابناء البصرة ولم تفعل ذلك؟.. او هل كان عليها ان تهيأ فرص العمل لالاف الشبان العاطلين عن العمل؟.. او هل كان من بين واجباتها ومهامها تأمين الطاقة الكهربائية واصلاح الطرق والجسور ورفع القمامة عن شوارع المحافظة؟. ومن غير المعقول، ان احدا من المتظاهرين السلميين، الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم والتنديد بالتقصير والفساد الحكومي، كان يعتقد ـ او يفترض ـ ان القنصلية الايرانية ومن يعمل فيها هم المسؤولون عن مشاكله وازماته، والمعنيين بأيجاد المعالجات والحلول المطلوبة لها. النقطة الاخرى، التي تبدو اكثر اهمية، تتمثل في انه اذا كانت هناك مشاعر انفعالية سلبية من قبل المتظاهرين ضد كل مظاهر الوجود الاجنبي في المحافظة، فلماذا استهدفوا القنصلية الايرانية ولم يصلوا الى القنصلية الاميركية او البريطانية او غيرهما؟، منطقيا من استطاع الوصول الى القنصلية الايرانية، ومقرات احزاب مختلفة ومقرات تابعة للحشد الشعبي، وبيوت مسؤولين، ومواقع شركات، كان بأمكانه ان يصل الى القنصلية الاميركية ـ او البريطانية ـ ويحرقها لو اراد ذلك وصمم عليه. اضف الى ذلك، فالمتعارف عليه وفق القوانين الدولية، ان الاعتداء على اية بعثة دبلوماسية، امر مدان ومرفوض، ويستوجب ان يقابل بمواقف قوية وواضحة من قبل كل اعضاء المجتمع الدولي، بيد ان ذلك لم يحصل حينما هوجمت القنصلية الايرانية في البصرة وتم احراقها، بل على العكس من ذلك، بدا ان ما حصل كان مبعث ارتياح وسرور اطراف اقليمية ودولية عديدة، واذا لم يظهر ذلك الارتياح والسرور جليا من خلال القنوات السياسية الرسمية، فأنه تجلى واضحا عبر وسائل الاعلام، ولكن ما افسد ارتياح وفرح وسرور تلك الاطراف الاقليمية والدولية، هو التعاطف الكبير الذي ابدته اوساط ومحافل سياسية وشعبية عراقية مع طهران، والتنديد الشديد بمن خططوا ومولوا ونفذوا، وما افسد الارتياح والفرح والسرور ايضا، هو افتتاح مقر اخر جديد للقنصلية بعد اقل من اسبوع على احراق مقرها الرئيسي!، وهذا وقت قياسي جدا. يعني بعبارة اخرى، ان ايران استوعبت الحدث وتعاطت معه بكل هدوء وحكمة، لتكسب الجولة سياسيا مع خصومها مرة اخرى، بحيث لم تتعد خسائرها سوى تخريب جزئي لمبنى القنصلية وتدمير بعضا من اثاثها ومحتوياتها، وهو شيء لايعتد به كثيرا في الحسابات والمعطيات السياسية الاشمل والاكبر، لاسيما عندما تتكشف معظم ـ ان لم يكن كل ـ الخفايا والحقائق والاسرار.
https://telegram.me/buratha