حين تغير بحث ألمعرفة عند البشر من التأمل في الطبيعة الى التأمل في الإنسان , تغير مسار الانسانية وتحول العالم من الخرافة والأسطورة الى عالم الواقعية لكن عالم المادة عالم جشع وبلا اخلاق يكون اساسه المنفعة والانانية ، حتى أصبحت كلمة ـ بروتا جوارس ـ الشهيرة ( الإنسان معيار الأشياء جميعا ) ناقوس يدق جرس الانتباه والترقب لبناء قيم جديدة , ومنها صار الإنسان متحررا ولا يقبل أن يستعبد , مما ضخم لديه الانا ليرفض ان يحكمه راي العقل بل سلوك الشهوة والرغبة , فهو يريد حقوق ولا يعطي واجبات , بل صار هو المطلق وريث الرب على العباد , الكسول الذي ينتظر ( زبيل ) مليء بالدولارات تهبط اليه من السماء او الباحث في الخرائب عن فانوس علاء الدين ليأمر فيستجاب ، لهذا افرز الواقع إنسان أخر يتجاوز على كل ما حوله من اجل منفعته ولا يقيم وزنا او اعتبار لأي قانون او قيم ولا حتى عادات , وما يقوده هو التنافس والغلبة وما يحكمهم هو القوي الأنفع ، متغافلين عن حقيقة أن ما لديه هو نابع عن أنانية ومرض نرجسي , بسبب سنين القحط التي جعلتهم في قلق مستمر من الغد , وهو وباء يستشري في كل من جاء الى الكرسي ليغير فيتغير ، لهذا أصبح هذا المرض مذهب للكثيرين هذه الايام , وبالأخص السياسيين الذين اعتبرهم أفلاطون شرا مجسد على الارض , فهم لشدة غرورهم وجبروتهم يتناسون او ينسون وعودهم , ليصبحوا طبقة ذات كيان مستقل عن المجتمع بمواردهم الاقتصادية واخلاقه الاجتماعية وحصانتهم السياسية , بل وحتى في اشكالهم الادمية ، اذ انهم بامتيازاتهم المتدفقة من اول يوم لهم بالبرلمان ينبت لهم وقر يصم اذانهم ويخرس اصواتهم , ليوجد لديهم عوازل نفسية واخلاقية ومجتمعية تبعدهم وتحجبهم عن ابناء لحمتهم وما يعانون , وهذه ليست تهمة بل واقع يكشفه ما يجري اليوم في مدينة الفيحاء البصرة , مما تعانيه من قهر وعوز لأبسط الخدمات والذي لم يحرك لسان برلماني واحد , فقد جفف تكيف قاعة البرلمان ومناديلها الناعمة عرق الخجل لديهم , وان عدم خوف الكتل السياسية من انفراط النظام وهو فوق العدالة كما يقول شوبن هاور كما انه المسؤولية الاولى التي اوكلت لهم في اليمين الدستوري وفي مشاريعهم السياسية المعلنة , وذلك بأسهل المهام وهو مطالبة السلطة التنفيذية التي تتميع امام العود التي اطلقتها من شهور طوال دون ان نتلمس منها على ارض الواقع شيء , بل على العكس من ذلك اذ نشاهد تلك الكتل وهي تتكالب بالتلفيق والتزوير بأعلام حربي محموم لقرب يوم عصيب في اعلان الكتلة الاكبر على صدورنا , بخلط الاوراق دون خوف او حياء , ليصل بذلك التلاعب حد تهديد الوضع الامني , ليضيع علينا بذلك المندس بالوطني والحابل بالنابل ولا يعرف زوجها من حماها , فهل حقيقة ان المصلحة الوطنية تتطلب هكذا مغالطات واستغفال واستخفاف بالمواطن وبقدرات الوطن ومستقبل البلاد , ام هي المصالح والاجندات من يقود بوصلتهم وضمائرهم السياسية ؟ نعم من الضروري ان تتعاطى مع الواقع وفق متطلباته الحاجة لكن مع مراعات ان تكون اقدامك فوق ثوابت لا فوق رمال متحركة معلومة النتائج ، فمكتسبات اليوم ما جاءت الا بشقاء الفقراء ودماء الشهداء من ابناء الشعب المظلوم , لا تمحيها جرة قلم المصالح والتوافقات , واذا كان ميكيافيلي يقدم مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) وهو مبدأ يرفض اخضاع السياسة لأي قاعدة أخلاقية , فهو يوصي باستخدام المصانعة والرياء للوصول الى السلطة , لكن انتم قشيرين قرأتم العناوين دون المحتوى وتبجحتم بشعارات رنانة جوفاء لتبرير افعالكم واصبحتم بلا رادع يستوقفكم ولا واعز انساني يرشدكم , تسيرون الى أطماعكم وتوجيهات اسيادكم والتي لا نهاية لها , فجعلتم السياسة متهمة في حمل قيم ذات اشكال ومعيار اميبية تبدوا للعامة في تغير دائم , دون مراعات ان هناك ثوابت يتأسس عليه العمل السياسي وفق مطالب حاجة الجماهير لا حاجة اعضاء الحزب او الكتلة , وان العمل بها له معيار زمني للمتغيرات لا القفز على مكتسبات لم يجف حبرها بعد , واذا كانت الاخلاق خارج نطاق تغطيتكم فالشهداء مازالوا في فضاء الذاكرة وهم يسالون عن ثمن تضحياتهم ويتم ابنائهم وترمل نسائهم , وان كان طريق المبادئ والقيم غير مأمون في مسيرتكم فلماذا عشمتموهم وشجعتموهم وزيفتم لهم الحقيقة وجعلتم الحرية استبداد لها بريق لخلاص الحاجة والعوز الذي سيبقى شعب المساكين فيه ابدا , وبهذا فانتم لستم أنموذج للسياسي الناجح ولا للوطني المناضل , بل مجرد آلة تنفذ الاوامر وتطيع النواهي بدون روح وطنية وبدون امل مشرق ولا مستقبل زاهر كما تدعون ، وما يحدث اليوم من تصارع وتناحر وتزاحم لاختيار الكتلة الاكبر لتجثم على صدورنا بحكومة المنافع , ما هي الا تشخيص لقول الخليفة عمر بن عبد العزيز من ( أنهم لم يختلفوا على ربهم او نبيهم ولا على كتابهم بل اختلفوا على الدينار والدرهم ) .
https://telegram.me/buratha