عادل الجبوري
رغم أن موقف العراق الرسمي من العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد الجمهورية الاسلامية، التي تم الشروع بتنفيذها في السادس من شهر آب/أغسطس الجاري، كان ملتبساً ومرتبكاً ومشوشا في البداية، إلا أن الموقف العام، الذي عكسته قوى وتيارات وشخصيات سياسية، ونخب ثقافية وفكرية واعلامية، وشرائح وفئات اجتماعية واسعة، كان واضحا وقاطعا الى حد كبير في رفض تلك العقوبات جملة وتفصيلاً، بل وفي رفض السياسات العدوانية الاميركية ضد إيران والعديد من الدول الأخرى.
ولا نبالغ إذا قلنا، أن الموقف العراقي العام، كان الأكثر وضوحا من سواه من المواقف العربية والاقليمية والدولية في رفض المنطق الأميركي الاستبدادي، العدواني.
لم ينطلق ذلك الموقف الرافض من فراغ، ولم تحكمه وتفرزه عواطف وانفعالات عابرة، ولم ينطلق من قاعدة (عدو عدوي صديقي)، بقدر ما تأسس على حقائق ومعطيات وحسابات، قانونية وسياسية واقتصادية وانسانية.
فمن زاوية قانونية، لم تستند العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد ايران، على أساس قانوني دولي، فهي لم تصدر من قبل مجلس الأمن الدولي - رغم الهيمنة الأميركية عليه نسبياً - ولا من أية جهة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة، ناهيك عن أنه لم تكن هناك مبررات ودواع مقبولة ومنطقية لتلك العقوبات، تنسجم وتتوافق مع ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة، بخصوص تهديد الأمن والسلم العالميين وكيفية التعاطي مع من يتسبب بذلك.
في الواقع، صدرت العقوبات من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ظل وجود معارضة وانتقادات حادة له حتى من داخل الولايات المتحدة الاميركية نفسها، وحينما نبحث عن الأسباب والدوافع الحقيقية للعقوبات، نجد ان ترامب أرادها وسيلة ضغط وابتزاز لإرغام طهران على الرضوخ للاملاءات الاميركية ليس الا، اضافة الى خلط الاوراق بعد تنصل ترامب من الاتفاق النووي المبرم في عام 2015 بين إيران من جهة، والدول الست الكبرى(اميركا وروسيا وبريطانيا والصين وفرنسا والمانيا) من جهة أخرى.
من الطبيعي أن يتساءل أرباب القانون في العراق، على ماذا يستند العراق حينما يقرر الاذعان للعقوبات الأميركية ضد إيران؟ هل هناك شيء غير مزاجية وعنجهية ترامب؟
ولو كان هناك قرار دولي صادر من جهة معنيّة ومختصة، وبدواع مقنعة لما وجدنا أطرافًا دولية كبيرة ومهمة، مثل الاتحاد الأوربي وروسيا والصين وتركيا، تعارض بشدة القرار، ولا تكتفي بالرفض النظري، وإنما تشرع باتخاذ إجراءات عملية لتجاوزه.
ومن زاوية سياسية، فإن العراق يرتبط بعلاقات عميقة واستراتيجية مع إيران، وهناك قواسم مشتركة عديدة بين الطرفين، ولعل علاقات بغداد - طهران كانت خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة، الأكثر تميزا من بين علاقات بغداد مع العواصم الأخرى في محيطها الإقليمي وعموم الفضاء الدولي.
وكان لمواقف طهران الإيجابية البناءة حيال ما تعرض له العراق من تهديدات ومخاطر وتحديات امنية، لاسيما الدعم الايراني الكبير –عسكريا وسياسيا واعلاميا ولوجيستيا - للعراق عندما تعرض للعدوان الداعشي التكفيري صيف عام 2014، الأثر الكبير في تسريع هزيمة داعش وتخليص البلاد منه.
فضلا عن ذلك، فإن طهران كانت - ومازالت - داعمة لبغداد في مختلف المحافل الاقليمية والدولية بما يساعد على عودته الى المجتمع الدولي بعد أعوام من العزلة والحصار والغياب.
وطبيعي أنه في سياق الأعراف والتقاليد القائمة في العلاقات بين الدول - كما هو الحال بالنسبة لعلاقات الافراد - لا بد أن تكون تلك المواقف الايجابية حاضرة، في الوقت الذي يتطلب من العراق اتخاذ موقف داعم ومساند لإيران، وهي تواجه حصارا وعقوبات من عدو وخصم، يسعى بكل ما أوتي من قوة هو وبعض حلفائه واتباعه الى إضعافها، واكثر من ذلك انهائها.
أما من زاوية اقتصادية، فالمعروف أن العراق الذي يشترك مع إيران بحدود برية تمتد من أقصى الشمال الى أدنى الجنوب، ولمسافة 1458 كم، وهذا يعني أن العلاقات والمصالح الاقتصادية بين الطرفين كبيرة ومتشعبة ومتداخلة في عناوينها ومجالاتها، ولعل ما يؤكد ذلك هو حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين، الذي ناهز العشرة مليارات دولار.
والى جانب ازدهار السوق العراقي بمختلف السلع والبضائع الإيرانية، وتصدير الوقود والكهرباء الى العراق، هناك الكثير من الشركات الإيرانية، التي تعمل وتستثمر في سوق العمل العراقي بمحافظات الجنوب والوسط والشمال، ومن خلالها تتوفر آلاف الفرص للمواطنين العراقيين، وكذلك فإن حركة السياحة الدينية تدر على الجانبين موارد مالية ضخمة، مضافًا إليها السياحة الطبيعية-الترفيهية، فضلا عن مجالات الدراسة والعلاج الطبي.
ومنذ الأيام الأولى لفرض العقوبات، وارتباك الاوضاع، وعدم وضوح الصورة بما فيه الكفاية، أخذت العديد من التقارير، تتحدث عن تأثر المدن الدينية المقدسة في العراق، كالنجف الاشرف وكربلاء المقدسة، بتراجع اعداد الزوار الايرانيين الى حد كبير، ما انعكس سلبا على عمل ونشاط مئات الفنادق والمطاعم والمحال والاسواق التجارية وشركات ووسائط النقل.
وهذا يؤشر الى حقيقة أنه من غير المنطقي ان يتحمل العراق خسائر وتبعات اقتصادية هائلة، لمجرد الإذعان لقرارات ترامب الارتجالية الحمقاء، في الوقت الذي سارعت دول أخرى، مثل تركيا، الى التأكيد منذ البداية على انها ستستمر بنفس وتيرة علاقاتها مع إيران، دون التضحية بمصالحها الاقتصادية والسياسية، لإرضاء ترامب المتهور!
أضف الى ذلك، فإن البعد الإنساني يجب أن يكون حاضرا بقوة في أذهان العراقيين، لأنهم حينما يتخذون موقفا ما حيال عقوبات ترامب على إيران، وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية على ملايين المواطنين الإيرانيين، عليهم ان يستحضروا الصور والمشاهد المؤلمة جراء الحصار الاقتصادي الظالم، الذي فرضته اميركا وحلفاؤها على الشعب العراقي في صيف عام 1990، جراء حماقات نظام صدام وسلوكياته العدوانية، لتتركه يئنّ تحت وطأة ذلك النظام الاستبدادي لثلاثة عشر عاما متواصلة، مازالت بعض اثارها ومخلفاتها المادية والنفسية قائمة وموجودة حتى الان.
وبلا أدنى شك، فإن المواقف التي يتم اتخاذها على ضوء كل الحقائق والمعطيات، تكون هي المواقف العقلانية الحكيمة المتوازنة، التي تحافظ على مكانة الدول، وتصون مصالحها، وتديم مسارات علاقاتها الصائبة مع أصدقائها وحلفائها، قريبين كانوا هؤلاء الاصدقاء والحلفاء أم بعيدين.
https://telegram.me/buratha