لا يستغرب العراقيون عادة سماع اخطر الاجراءات والقرارات من وسائل الاعلام، فهم اعتادوا على ذلك، بل يجد كثير منهم في ذلك اثارة وحدثاً جديداً. اذ كانت الانظمة تتغير بين ليلة وضحاها ببيان رقم واحد.. فيدخل السجن او يعدم من كان حاكماً، وينتقل الى دست الحكم من كان مسجوناً او مطارداً.. بل طالما يفاجىء المواطنون، بما فيهم كبار المسؤولين، وهم يسمعون عبر الاعلام ان بلادهم دخلت الحرب مع جار لها كما حصل في الحرب العراقية الايرانية.. او ان القوات العراقية اجتاحت اراضي دولة اخرى، كما حصل مع الكويت، وقس على ذلك عشرات بل مئات الوقائع الخطيرة التي تغير مسار البلاد وحياة الناس جذرياً.
اما القرارات والقوانين الادارية والاقتصادية وما يتعلق بحياة الناس من شؤون احوال مدنية وسفر وتعليم وصحة وعطل رسمية واجراءات كمركية، او تعليمات تجارية واقتصادية وقضائية، فحدث ولا حرج.. ويحدثني محام بارع بانه سعيد لذلك، لانه اعتاد ارشفة وحفظ كل ما صدر قديماً ويصدر حديثاً من تعليمات وقوانين وسوابق، متضادة ينقض بعضها بعضاً ما زالت سارية. فيستغل جهل بعض القضاة الحديثي العهد بالقوانين والتعليمات السارية القديمة.. والقديمي العهد بالقوانين والتعليمات الجديدة.
تترتب على هذا الخلل في الحياة السياسية العراقية وفي الادارة العامة، نتائج خطيرة في علاقة الدولة بالمواطن.. وعلاقة المواطنين ببعضهم.. وعلاقة المسؤولين والدوائر فيما بينها.. وهو مظهر من مظاهر التخبط والفوضى والاستبداد، وعدم بناء الثقة بالدولة واجراءاتها، ويشير الى هشاشة الاجراءات وسرعة اتخاذ القرارات.. ويشيع ممارسات ونفسيات مهزوزة تخرب اي بناء او اصلاح تروم الامة او البلاد القيام به.
فعندما تتلون طباع كثيرين وتصبح ممالئة ومنافقة ومتقلبة.. وعندما يغير اخرون ولاءاتهم وانتماءاتهم بالسهولة التي يغيرون فيها ملابسهم.. وعندما يلجأ غيرهم للحصول على شهادات تناسب الموجة الصاعدة.. وعندما يمتنع المواطنون من وضع اموالهم في المصارف.. او في الادلاء بمعلومات صحيحة عن مصالحهم وحياتهم، وعندما.. وعندما، فان ذلك يجب ان يفسر كخوف واحتياط من المواطنين مقابل المفاجئات التي تصدر من الدولة.. اجراء تعلموه بالفطرة يمثل حماية وحصانة لهم امام تقلبات اجراءات الدولة، رغم ان المواطنين سيعاقبون وينتقدون على سلوكياتهم هذه، بينما لا تعاقب الدولة او تنتقد على سلوكياتها.
ومما يؤسف له ان معظم دوائرنا ومؤسساتنا ومسؤولينا، من ادنى المستويات الى اعلاها، مستمرون على ممارسة هذه السياسة، غير مدركين انهم يوجهون طعنة قاتلة للبناءات التي تقول البلاد انها قد عقدت العزم للسير نحوها، ونقصد بذلك بناء الديمقراطية والشفافية ومصارحة الشعب ودراسة القرارات والسياسات عبر المؤسسات، وليس فقط في الغرف المغلقة، او في اطار الحياة السياسية السرية.. التي ما زالت تحتل مكاناً بارزاً في صناعة القرارات والاجراءات، التي تتعلق بمصالح البلاد العليا او بمصالح المواطنين مباشرة. والامر هنا لا يتعلق بصحة او بطلان الاجراءات بل يتعلق بسلوكية وتقاليد عمل هي التي تؤسس وتربي في النهاية على بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، وبين المواطنين انفسهم.. وهذه دعامة اساسية لبناء المجتمع الصالح والدولة الكريمة العادلة.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha