بادئ ذي بدء، أود أن نعرّف العلمانية قبل الدخول في الموضوع.
يعبّر عن العلمانية في اللغة الإنجليزية ب(secularism) مأخوذة من كلمة( secular) بمعنى الناسوتي، والدنيوي، والبشري، وأمّا في المصطلح السائد تعني:(تنظيم الأمور المعاشية وحياة الإنسان، من دون إقحام لسلطة الله والآخرة)،المتنور المسلم الذي تبنى العلمانية، عبد الكريم شروس، عرّفها في مقالة( أنها فصل الدين بشكل مقصود عن مجال المعاش والسياسة).
العلمانية لها أسباب في الظهور، التي جعلتها تهيمن على الساحة السياسية، بعد عصر النهضة، كما للعلمانية أسس ومرتكزات فكرية، قامت عليها لمدة أربعة قرون، حلّت محل المباني الفكرية للكنيسة، ومن هذه المرتكزات، مركزية العلم أو محورية العلم، التي ترى أن العلم يجب أن يحل محل الوحي والتعاليم الدينية في الامور الدنيوية.
شبه بعض المستنيرين، مثل شروس ومن سار على نهجه، العالم ألإسلامي بالعالم الغربي، قائلا كل تخلف عن العلمانية، يصبّ في خانة الرجعية!.
أريد أن اتكلم عن أهم الأدلة لدى العلمانية، ألا وهي( مركزية العلم)،بلغة بسيطة ومختصرة،لأن يوجد عدة أدلة طرحها بعض المتبنيين للعلمانية، بالمقابل هناك رد للإسلاميين عليها، وتم تفنيدها بالدليل العلمي والمنطقي والفلسفي، أمثال: الشيخ جواد آملي، والشيخ مرتضى العسكري، والدكتور عبد الله حاجي الصادقي.
يقول أصحاب العلمانية ما معناه: إن الإنسان ما قبل الحداثة، أو قبل عصر النهضة، يعيش حياة بسيطة وغير معقدة، ضمن مجتمعات صغيرة، وعلاقاته الأجتماعية محدودة، كما أنه ـ الإنسان ـ كان ينظر للظواهر الطبيعية حسب ما يراه من الظاهر، لأنه عاجز عن ذلك من الناحية العقلية والعلمية، أن يدرك ما وراء الطبيعة.
لكن ذلك الإنسان البسيط، بأستطاعته أن يدير المجتمع عمليا، حيث لا توجد تعقيدات فيه، فكان تدخل الدين في إدارة المجتمع، وتنظيم علاقاته الإنسانية، والسياسية، والأقتصادية من هذا القبيل، وهو أمر مبرر ومقبول ومفيد نوعا ما، امّا الأشياء التي كان يعجز عن تفسيرها، مثل حركة النجوم،وحدوث الليل والنهار وأشباهها، فكان الدين يلقيها، على الإيمان بالغيب!.
أمّا في عصر النهضة والحداثة، حيث التقدم العلمي والتقني، وتطوّر العقل البشري، وتوّسع دائرة النشاط السياسي، والأداري، والأقتصادي، والأجتماعي، والتعقيدات الكثيرة، أصبح الدين عاجز عن إيجاد الحلول لها، فالعلم هو الذي أغنانا عن الإدارة الدينية، ومكننا من التأسيس لهذه العلوم، وتنظيم العلاقات الانسانية، وهذه المعطيات الكبيرة أغنتنة عن التفسيرات الميتافيزيقية، ويعد تدخل الدين فيها خطأ كبير.
الإسلاميون ردوا على هذه الإشكاليات، وقالوا: إن العلمانيين أخطأوا حينما فسّروا الإنسان الديني المسلم، بتفسير المسيحية، عندما رفضت الكنيسة العلوم، التي توصل لها الغرب، وواجهتها بكل ما أوتيت من قوة وسطوة، وقالوا: إن الإسلام أعتبر العقل أساساً لقبول الدين، والجهل والخطل من أهم الأسباب الداعية الى النفرة والدين، والإسلام لا يسمح بوضع القيود الزمانية والمكانية على العقل، حتى في دعوته الى التوحيد، وأكد على العلم ومعرفة أسرار الخلق، وإن جميع أحكامه تقوم على المصالح والمفاسد، فكيف نعزله عن الساحة السياسية في عصر العلم والعقلانية؟!.
ثم أستشهدوا على أقوالهم، بآيات كثيرة، وروايات جمّة عن أهل البيت عليهم السلام، لا يسعني بهذا المقال المحدود أستعراضها جميعاً، لكنهم ذكروا أمراً مهم جداً، وهو: إن العلم وإن كان ضروريا، في إدارة وتنظيم حياة الإنسان، إلاّ أنه ليس كافياً، فإذا لم يتوفر العلم على وسيلة، تعمل على توجيهه والسيطرة عليه، قد يتحول، إلى أداة بيد المستعمرين والطغاة، فيوضفوه لا لصالح تقدّم المجتمع، بل لأنحطاطه وسقوطه!.
أقول: إن العلم صح يخدم الإنسان، لكن لا يعطيه الأستقامة في الحياة، لذلك نشاهد كثير من الأنحطاط والإنحلال الخلقي في العالم الغربي المتطور، وكثرة الجريمة، وشيوع الرذيلة والفساد، حينما نسمع أن حادث عجيب وقع في نيويورك، أثر أنقطاع التيار الكهربائي فجأة، هو أن كثير من الناس، هاجموا المحلات والمخازن، وسرقوا كل ما فيها، بحيث أعتقل البوليس ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات، وهذا أن دل على شيء، فأنه يدل على الإنحطاط الخلقي، وفقدان الأمن الاجتماعي!.
إن الدين مهمته الرئيسية هو إصلاح الإنسان، وهذا ما لا تعطيه العلمانية، ولا مركزية العلم التي تعتمد عليها.
https://telegram.me/buratha