التواصل بين الاجيال ضعيف في العراق في الشأن السياسي.. فتجارب الاجيال الماضية لا تنتقل متكاملة بدروسها للاجيال الصاعدة، مما يشكل انقطاعات ليس لفهم ما جرى ويجري، بل يشكل عاملاً مهماً لعدم مراكمة التجارب، ولتكرار ارتكاب الاخطاء وعدم تحصين المكتسبات، وضعف بناء المفاهيم والسلوكيات وتقاليد العمل المتطورة.
ولعل سبب ذلك هو انظمة الاستبداد والقمع التي ابتلى بها العراق.. فغياب الديمقراطية واللجوء الى الانقلابات المتكررة كوسيلة لتداول السلطة، تقود بالضرورة الى محو الذاكرة وادانة كل ما سبق.. لنبدأ من جديد بالبيان رقم واحد، وتغيير الاعلام والنشيد الوطني واسماء الطرقات والعطل الرسمية ومنع ذكر اسماء المسؤولين السابقين، وتغيير الدستور والقوانين، وقس على ذلك. حصل ذلك منذ تاريخ طويل في العراق.. لكننا اذا اردنا الوقوف عند التاريخ المعاصر فقط، فسنجد ان هذا ما فعله النظام الجمهوري مع النظام الملكي، والبعث الاول مع القاسمي، والعارفي مع البعث الاول، والبعث الثاني مع العارفي. والاعتقاد السائد انه كلما ادين القديم كلما حصل الجديد على الشرعية المطلوبة.. وكلما تم محو القديم من الذاكرة كلما ترسخت في الذاكرة مفاهيم وشخصيات الوضع الجديد.
لاشك ان التغيير سنة حياتية وعمل مطلوب للانتقال من مرحلة الى اخرى اكثر رقياً وتقدماً.. لكن التغيير سيكون ناضجاً وواعياً تماماً مستلزمات المرحلة الجديدة، ان احاط فعلاً بكل سلبيات وايجابيات المرحلة السابقة.. ليحافظ على الاخيرة وليتخلص من الاولى. فاصحاب المشاريع الجدية لا يخافون من تجارب من سبقهم، فمن يخاف منها هم فقط اولئك الذين لا يحملون مشروعاً جدياً سوى الصراع على السلطة. على العكس يحرص اصحاب المشاريع الجدية لابقاء الذاكرة حية، ولحث التواصل التاريخي.. فمعرفة عوامل الفشل هو جزء من عوامل النجاح. والعراق ابتلى منذ فترة غير قصيرة من كثرة الصراعات على السلطة وقلة المشاريع الجدية. فتحول الالغاء والمحو الى ممارسة سياسية وهو ما قاد ويقود الى تجهيل سياسي خطير ندفع ثمنه. ولقد انشأت في بدايات التغيير في 2003 مؤسسة الذاكرة واحيطت يومها باهتمام كبير، لكن تداعيات الاحداث انست المسؤولين خطورة واهمية هذا العمل ايضاً.
يشكل الجيل الذي عمره 15-25 عاماً حوالي 22% من الشعب العراقي، اي حوالي 8 مليون نسمة، فاذا اضيف من هم اقل الذين يشكلون 40% من الشعب، فاننا نتكلم هنا عن الاغلبية الساحقة.. اي ان شاباً عمره 25 عاماً اليوم كان عمره في 2003 اقل من 13 عاماً.. هذا الشاب الذي بات في قلب العمل السياسي اليوم والذي يشكل جيله القوة الاكبر في التشكيلات والنشاطات السياسية القائمة لا تحمل ذاكرته كثيراً من الاحداث التي عاشها العراق خلال السنين والعقود السابقة.. وللاسف لا تهتم مدارسنا ومؤسساتنا وقوانا السياسية وتقاليد عملنا على تسجيل الذاكرة بالشكل الصحيح، ولا تنقلها بكل دروسها ومعلوماتها للنشىء الجديد.. فهذا الجيل وما سيليه من اجيال، لم يعش مباشرة جرائم صدام حسين.. ولم يشهد كم بذل رجال ونساء شجعان من تضحيات وجهود واتبعوا من سياسات لمواجهة احداث تلك المراحل السوداء والتخلص منها.. ولم يتلقن دروس الصعوبات والعقبات وعوامل الفشل والنجاح.. لم يحصل على ذلك، الا من رحم ربي، وتوفرت له مناخات نقلت لوعيه ذاكرة الاجيال التي سبقته.
فالتقطعات في الذاكرة امر خطير فيما يخص الوعي العام وتكون الثوابت المشتركة للشعب وقواه السياسية، وتنقية العمل السياسي من اجواء السطحية وقلة الخبرة والمبالغة او البساطة.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha