انتصرت تركيا في الانتخابات الاخيرة بتسجيلها اعلى نسبة مشاركة )86%(.. وهذا نجاح ليس لتركيا فقط بل للمنطقة ككل.. فلقد تطور المزاج الانتخابي والديمقراطي كبديل للدكتاتوريات والانقلابات والاستفراد بالسلطة واحتكارها من قبل فرد او حزب.. وتعزز مبدأ التداول وفق الوسائل السلمية.. ورغم تباين التجارب واختلاف مبانيها وتكاملها، لكن هذا الامر شهد تطوراً مهماً في كل من ايران وتركيا والعراق ومصر والمغرب ولبنان والاردن، ونعتقد ان التأثيرات المتبادلة في المنطقة ستعزز هذه الاتجاهات، رغم الانتكاسة في مكان، او التشدد والتعنت في مكان اخر.
من مجموع 20 حزباً متنافساً، حصل 16 حزباً مجتمعاً على 4% تقريباً من الاصوات.. وحصدت الاحزاب الاربعة الباقية، التي عبرت حاجز الـ10%، على بقية الاصوات. تقدم "حزب العدالة"، وحصل على نسبة 40.86% من الاصوات مقابل 49% في الدورة السابقة.. وسيكون له 258 مقعداً، مقابل 311 مقعداً في الانتخابات السابقة. الامر الذي لن يسمح له بالوصول الى هدفه في تعديل الدستور واقرار النظام الرئاسي.. فلم يحقق الثلثين اللازمين لتعديل الدستور، دون الحاجة لاستفتاء شعبي.. او الثلاثة اخماس التي كانت ستسمح بطرح التعديلات للاستفتاء.. بل لم يحقق الاغلبية المطلقة التي تسمح له بتشكيل حكومة، دون تحالفات. فالتحالف سيصبح السمة الاساسية للحكومة القادمة.
فالنظام الانتخابي التركي لا يخلو من تعقيدات.. فالعتبة القانونية هي الاعلى في العالم.. وتتضمن ايجابيات وسلبيات.. فهي تمنع الاحزاب الصغيرة والطارئة، مما يقود لحكومة قوية، او من الاقوياء.. لكنها بالمقابل ستحجز الطريق امام تيارات مهمة لن تتمكن من التعبير عن نفسها.. وقد تقود الى شكل من اشكال احتكار السلطة. كما ان النظام الانتخابي يقوم على المناطق الانتخابية والتصويت للمرشح.. وهذا امر جيد من ناحية علاقة المرشح بناخبيه ومنطقته.. لكنه يحمل ايضاً عدم التوازن في الاثقال الوطنية.. فـ"حزب العدالة" حصل على حوالي 18.85 مليون صوتاً منحته المقاعد اعلاه..
بينما حصل كل من "حزب الشعب الجمهوري" على 11.5 مليون صوتاً، و"حزب الحركة الوطنية" على 7.5 مليون صوتاً، اي ما مجموعه اكثر من 19 مليون صوتاً، وحصلا على 132 مقعداً و80 مقعداً على التوالي.. ومجموعهما اقل بـ46 مقعداً عن "حزب العدالة"، رغم تقدمهما مجتمعين بالاصوات على "حزب العدالة". كما حصل "حزب الشعوب الديمقراطي" على 6.05 ملايين صوتاً مهدت له الحصول على 80 مقعداً، وهو نفس عدد مقاعد الحزب الثالث، رغم فارق 1.5 مليون صوتاً تقريباً بين الاثنين.. وهذا امر طبيعي في النظم الانتخابية التي تعتمد المناطق الانتخابية والتصويت للمرشح. علماً ان ثقل "حزب العدالة" كان في اواسط تركيا، بينما تركز ثقل "حزب الشعب الجمهوري" و"حزب الحركة الوطنية" في غرب تركيا والمناطق الشمالية.. وتركز ثقل "حزب الشعوب الديمقراطية" على مناطق جنوب شرق تركيا، اي المناطق ذات الاغلبية الكردية.
الامر المفاجىء للبعض وغير المفاجىء لاخرين هو حصول "حزب الشعوب الديمقراطي" على 13.12%.. وهذا امر مهم للاكراد ليس في تركيا فقط بل في العراق وغيرهما ايضاً. فلقد خاض "حزب الشعوب" معركته تحت منهاج تركي.. وبنى استراتيجيته في الدفاع عن القضايا العامة لتأتي القضايا الخاصة في اطاراتها. وهذه ستسجل كتطور في معارك الكرد السياسية.. فلا تذوب قضايا الهوية والقضايا الخاصة بالسياسات العامة.. ولا تطغى القضايا الخاصة لتتصادم مع القضايا العامة.. وهو ما قد يسمح للكرد وبقية الشعوب تنظيم علاقاتهم على درجات اعلى من التنسيق والتناغم، وبالتوافق مع الاطارات السياسية المناسبة لهم ولغيرهم، حسب الاحوال والظروف.
لاشك ان هذه الانتخابات ستكون نقطة مهمة لاعادة رسم السياسة التركية الداخلية والخارجية.. ولاشك ان التغيرات القادمة ستكون لها تأثيرات مهمة في العراق وسوريا ودول المنطقة قاطبة.. من هنا اهمية متابعة هذه التطورات، وان تكون لنا افضل العلاقات مع جميع القوى والاحزاب التركية، لما فيه مصلحة البلدين والمنطقة وشعوبها.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha